الحراك الشعبي العراقي.. أزمة المرجعيات الدينية؟

الاحتجاجات العراق

الاحتجاجات في العراق وضعت الحكومة وقوى البرلمان في موقف حرج للغاية بسبب تفاقم الأوضاع الاقتصادية والخدمية في البلاد، ما يضع النظام السياسي المبني على توافق طائفي على المحك. فهل باتت المرجعية الدينية في موقف حرج أيضا؟

بعد عام من تولي السياسي “النخبوي” عادل عبد المهدي منصب رئيس الوزراء في العراق، والذي حاول منذ البداية إرضاء كل الأطراف في المعادلة السياسية من خلال مسك العصا من المنتصف، تشهد مدن عراقية كثيرة موجة احتجاجات ليست جديدة، لكنها تختلف نوعيا عن سابقاتها من حيث حجم المشاركة الشعبية فيها ومن حيث استخدام العنف المفرط في قمعها، حيث بلغ عدد القتلى، وفق منظمات حقوق الإنسان العراقية، أكثر من 40 شخصا إلى جانب إصابة مئات من الناس واعتقال أكثر من 200 شخص لحد الآن.

وصب المحتجون جام غضبهم على الحكومة والنخبة السياسية التي يتهمونها بالفساد وعدم فعل شيء لتحسين أحوالهم المعيشية، وطالبوا بتوفير فرص عمل وتحسين الخدمات و”إسقاط النظام”، أي نظام “المحاصصة الطائفية” في العراق. وتظهر الاحتجاجات أن محاولة رئيس الحكومة إرضاء الجميع لم تكن سوى محاولة لتأجيل الصدام، الذي كان مرتقبا في اي لحظة في العراق ومنذ سنوات طويلة.

اقرأ أيضاً: إيران تلعب ورقة مقتدى الصدر لاختراق الاحتجاجات في العراق

لكن التناقضات التي يعيشها العراق ليست بالسهلة كي يتمكن سياسي مخضرم تجاوزها من خلال كسب الوقت فقط، كما فعل عادل بعد المهدي خلال العام الأول من ولايته. فالحكومة تتألف من قوى شيعية مع بعض القوى السنية لها أغلبية في البرلمان لتواجه معارضة شيعية وأخرى سنية والقليل من العلمانيين، ومعهم عموما شارع عريض يجمع الطوائف مع بعضها في أهداف محددة أبرزها: مكافحة الفساد وتوفير فرص العمل وتحسين الخدمات لعموم السكان وتقليص الامتيازات للنخبة السياسية المتنفذة.

في نفس الوقت تجد المرجعية الشيعية الدينية نفسها في موقف حرج أيضا، إذ أن الحكومة هي نتاج للمحاصصة الطائفية التي لا تجد عيبا فيها، ولكن كيف يمكن لها أن تطعن في حكومة يشكل الشيعة الجزء الأكبر منها. لكن المرجعية تعلم أيضا أن الطائفة الكبيرة في البلاد منقسمة على نفسها سياسيا وتنظيميا. وربما تشكل هذه الحقيقة مخرجا للمرجعية “السيستانية” في النجف كي تخرج على الملأ بموقف واضح.

ففي صلاة الجمعة (الرابع من تشرين أول/ أكتوبر 2019) أعلنت مرجعية آية الله علي السيستاني عن موقفها وطالبت الحكومة بالعمل على تحسين الخدمات وتوفير فرص العمل للشباب وكل العاطلين والابتعاد عن المحسوبية والمنسوبية ومحاسبة المقصرين، أي بعبارة أخرى محاسبة الفاسدين في السلطة بكل مستوياتها. وقال أحمد الصافي، معتمد المرجعية،  في خطبة صلاة الجمعة في صحن الإمام الحسين بمدينة كربلاء، إن “الحكومة عليها أن تنهض بواجباتها لتخفيف معاناة المواطنين وعليها أن تبتعد في المحسوبيات بملف التعيينات الحكومية”.

لكن السؤال المهم في هذا الإطار يكمن في معرفة موقف رجل الديني الشيعي الشاب مقتدى الصدر الذي يعود الفضل إليه في تعيين عادل عبد المهدي في موقع رئاسة الوزراء بعد أن نالت قائمته الانتخابية “سائرون” أغلبية برلمانية في الانتخابات الأخيرة ووعد الناخبين بإصلاحات واسعة، بما في ذلك مكافحة الفساد وإبعاد النخبة “الفاسدة” من السلطة من خلال تشكيل حكومة تكنوقراط بقيادة عادل عبد المهدي، الذي خرج من عباءة الأحزاب الدينية وبات ينشط على مستواه الشخصي في الكتابة والنشر بعيدا عن النخبة حتى تمت دعوته ليكون رئيسا للوزراء من قبل مقتدى الصدر، بصفته شخصية تكنوقراطية مستقلة نسبيا.

الزعيم الشاب مقتدى الصدر يركب كل موجة من الاحتجاجات ويؤججها ليمرر من خلالها مطالبه السياسية. فماذا يقول هذه المرة، هل سيؤجج الاحتجاجات ضد حكومة يدعمها هو وكتلته في البرلمان؟ للإجابة على هذا السؤال يمكننا أن نستمع إلى ما قاله عادل عبد المهدي في خطابه مساء الخميس أو فجر الجمعة، خطاب ليس بعيدا عن رأي مقتدى الصدر، حيث قال عبد المهدي إنه يجب إعادة الحياة إلى طبيعتها في جميع محافظات البلاد، وخاطب المتظاهرين في البلاد قائلا إن صوتهم مسموع قبل التظاهر ومطالبهم مشروعة. وأضاف عبد المهدي في كلمة بثها التلفزيون العراقي الرسمي: “نحن متمسكون بالدستور وعلينا إصلاح المنظومة السياسية ونتحمل مسؤولية قيادة الدولة في هذه المرحلة الحساسة”.

وتابع: “إن التصعيد بالتظاهر بات يؤدي إلى خسائر بالأرواح وتدمير الدولة وإننا نضع ضوابط صارمة لمنع العنف”. وأوضح: “أقول لكم حاسبونا عن كل ما نقوم به وعلينا التعاون وأنه لا توجد للدولة حلول سحرية لحل جميع المشاكل”. وأردف قائلا: “شكلنا لجانا من أجل إطلاق سراح المحتجزين من المتظاهرين واعتبار ضحايا المظاهرات شهداء”. وقال: “سنمنح رواتب لكل عائلة عراقية لا تمتلك راتبا شهريا من أجل تحقيق العدالة”.

مقتدى الصدر يقف في موقف محرج بين دعم حكومته، التي ناضل من أجل تشكيلها بلا هوادة، وبين حراك شبعي لا يسيطر عليه بأي شكل من الأشكال ولا يبقى أمامه سوى الدعوة إلى إعلان سريع لخطوات حكومية على طريق حل مشاكل الشعب والدعوة إلى السلطات الأمنية بعد استخدام العنف المفرط في مواجهة المتظاهرين. وأخيرا ربما أيضا القيام بخطوة رمزية تتمثل في تجميد نشاط كتلته البرلمانية لحين حل مشاكل البلاد دون مشاركتهم.

لكن مقتدى الصدر يقف محرجا أيضا أمام المرجعيات الشيعية الكبيرة، التي خاض ضدها صراعا عنيفا منذ سقوط نظام صدام حسين، حيث وصف المرجعيات الدينية الشيعية بالمرجعيات الصامتة “لأنها تلتزم الصمت إزاء المشاكل الكبيرة في البلاد”. إذن الحلول التي تقدمها الحكومة حاليا لا يمكن إلا أن تكون وقتية هدفها امتصاص النقمة مؤقتا وإلى حين وبانتظار موجة أخرى من الاحتجاجات في المستقبل القريب.

في هذا السياق، يقول المحلل السياسي الألماني والخبير بالشأن العراقي دانييل غيرلاخ إن الحلول ستكون في الغالب محاولة لترضية الشارع نسبيا، لأن المشاكل جذرية وعميقة لا يمكن حلها بسهولة ومن خلال وعود سريعة لاحتواء موجة غضب شعبي. ويتوقع غيرلاخ أيضا إجراء بعض التغييرات على المناصب الحكومية السياسية وعلى بعض المناصب الأمنية والعسكرية “لتوليد انطباع بأن هناك تغييرا يجري فعلا. ولكن كما قال عبدالمهدي بنفسه لا توجد حلول سحرية لحل المشاكل بين ليلة وضحاها”، كما يقول المحلل السياسي الألماني.

إلى ذلك يضيف غيرلاخ أنه من الضروري بمكان أن يتم منح عادل عبدالمهدي الفرصة لمواصلة سياسة جديدة على طريق إصلاح الأوضاع العامة في العراق، لأن عبدالمهدي سياسي خارج إطار الأحزاب السياسية ويمكن له أن يشق طريقا خاصا بحكومته يختلف عن مشاريع حكومية سابقة في البلاد.

وربما تجد الحكومة أن من الصعب السيطرة على هذه الاحتجاجات، إذ لا يشارك أي فصيل أو حزب سياسي فيها علنا ويكون من الصعب التواصل مع حراك دون قيادة معروفة سياسيا. وإذا اتسع نطاق الاحتجاجات فليس من الواضح ما هي الخيارات التي تملكها الحكومة. ولم يُذكر شيء حتى الآن عن تعديلات وزارية أو استقالات. ومن المرجح أن ترغب الأحزاب، التي اتفقت على الدفع بعبد المهدي، صاحب النفوذ الضعيف، إلى قمة السلطة وتسيطر عليه، (أن ترغب) في إبقائه في موقعه.

السابق
ديانا كرزون تغنّي لأصولها الكردية للمرة الأولى
التالي
محافظ كربلاء يطالب تأجيل التظاهر: نريد التفرغ لخدمة زائري «الأربعين»!