العداء لإيران ليس جواباً كافياً

في آذار 2015، قال علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إن “إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا، اليوم كما في الماضي”.  كلام يونسي يذكّر الإيرانيين والعرب، أن الإمبراطورية الفارسية كانت حدودها دائماً تصل إلى الضفة الغربية لنهر الفرات. يونسي نفسه في محاضرة له بمنتدى “الهوية الإيرانية” بطهران، قال إن “جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا إما أن نقاتل معا أو نتحد”. 

يونسي ليس مجرد مستشار فقط، فهو شغل منصب وزير الاستخبارات في حكومة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، وهو يقول في تلك المحاضرة “كل منطقة الشرق الأوسط إيرانية” ويضيف: “سندافع عن كل شعوب المنطقة، لأننا نعتبرها جزءاً من إيران، وسنقف بوجه التطرف الإسلامي والتكفير والإلحاد والعثمانيين الجدد والوهابيين والغرب والصهيونية”.

الأهم أن هذا الكلام ليس فقط مرتبطاً بوقائع الحاضر، فهو يربطه أيضاً بالتاريخ القديم: “إن منافسينا التاريخيين من ورثة الروم الشرقية والعثمانيين مستاؤون من دعمنا للعراق”. 

ولا يتردد في توصيف ما تريده الدولة الإيرانية: “نسعى إلى اتحاد إيراني في المنطقة”، قائلا “لا نقصد من الاتحاد أن نزيل الحدود، ولكن كل البلاد المجاورة للهضبة الإيرانية يجب أن تقترب من بعضها بعضاً، لأن أمنهم ومصالحهم مرتبطة ببعضها البعض.. لا أقصد أننا نريد أن نفتح العالم مرة أخرى، لكننا يجب أن نستعيد مكانتنا ووعينا التاريخي، أي أن نفكر عالمياً، وأن نعمل إيرانياً وقومياً”.

قوة كلمات يونسي متأتية من هذا الوضوح الكامل للتفكير السياسي والبرنامج الاستراتيجي الذي يسير على هديه النظام الإيراني. تحديد الأعداء كما تحديد الأهداف. لكن الأهم هو تعريف الذات. فعلى الرغم من أن الإيديولوجيا الخمينية التي يعتنقها النظام، قائمة على “تثوير” المعتقد الشيعي، إلا أنها أمينة تماماً للمشروع القومي الشاهنشاهي، وتتصل بالطموح التاريخي للإمبراطورية بصيغة أكثر تطوراً وتعقيداً. وليست إيران، بهذا المعنى، استثناء. فالمثال الصيني أو الهندي أو التركي أو الروسي، هو هذا المزج بين استمرارية قومية تاريخية بإيديولوجيا خاصة وحديثة قادرة على التعبئة كما على فرض الانضباط.

اقرأ أيضاً: إيران… الابتزاز الطريق الأقصر إلى المفاوضات

“المكانة” و”الوعي التاريخي” و”التفكير عالمياً” و”العمل قومياً”. هذه كلمات مفتاحية لفهم ديناميكية السياسة الإيرانية، وبرنامجها المنظم والمنهجي: تكوين منظومة دول تمتد شرقاً إلى أفغانستان وشمالاً إلى أذربيجان وضفاف بحر قزوين، وغرباً العراق وسوريا ولبنان وسائر دول الخليج واليمن، وجعلها “مجالاً حيوياً” للمركز الإيراني، بما يتيح بروز دولة فاعلة عالمياً بفضل هذا التكتل، ما يوازنها مع التكتلات الكبرى وينافسها، خصوصاً لتوسطها الخريطة العالمية، ولامتلاكها فائضاً بشرياً شاباً وقسماً هائلاً من موارد الطاقة، وسيطرتها على واحدة من أهم شبكات الطرق التجارية والمرافئ والمضائق البحرية.

تمتاز هذه “الرؤية” بالتماسك النظري من ناحية، وبالالتزام المؤسساتي (فكر وخطط دولة وليس “أمزجة” متقلبة وشطحات أفراد)، أكان الإصلاحيون في الإدارة أو المحافظون أو أي تيار آخر. هذا ما يتيح للإيرانيين المثابرة والمراكمة وطول النفس و”الصبر” وتحقيق الإنجازات المتتالية والمتضافرة مع بعضها البعض، بما يمنح القوة الإضافية للتوسع نحو أهداف جديدة.

نقول كل هذا بمزيج من الحسرة والغيظ والإعجاب. فلكل دولة طموحها الشرعي في التفوق والازدهار والمكانة العالية وحيازة أسباب القوة. وهذا بالضبط ما لم تنجح الدول العربية في تحقيقه أو حتى في تنصيبه وعداً لشعوبها. 

بكل دقة حددت إيران من ستواجه: الوهابية (وعموم الإسلام السياسي السنّي)، العثمانية الجديدة، إسرائيل والغرب. لكنها أيضاً حددت نوعية مواجهة كل “عدو”. فالتنافس مع العثمانية الجديدة يستعيد منازعة الدولة الصفوية مع السلطنة العثمانية على حدود النفوذ من أرمينيا وأذربيجان إلى وسط العراق وشط العرب، وهذا يمكن تدبيره كما عبر التاريخ بمعاهدات وتفاهمات ليبقى مجرد تنافس قد يأخذ أحياناً شكل “التعاون”. أما بخصوص الوهابية، فهي مرشحة للاحتواء والانمحاء لأسباب كثيرة، أهمها انعدام جاذبية “الوهابية” حتى داخل مجتمعاتها المتململة، والسخط العالمي المتعاظم لما أنتجته من حركات عنفية وعدمية، والفصام العميق بينها وبين صيغة السلطة القائمة في النموذج الملكي والأسري السعودي واستعصاء “الإصلاح” أو تخبطه على غير هدى. المسألة مع “إسرائيل” هي “ذرائعية” بامتياز، هي عنوان تجنيد وتعبئة للشعوب غير الإيرانية، وهي مبتدأ الصراع – الحوار مع “الغرب”، امتحان القوة وامتحان النفوذ والإرادة. كل ما تريده إيران هو صوغ “هوية” مركبة للمنطقة (لكتلتها الإمبراطورية) تتمايز عن الغرب، لكن باعتراف الغرب وإقراره بهذا التمايز. هو طموح بالغ المعاصرة: “الشراكة” مع الغرب من موقع الاختلاف والتمايز (ثقافياً وقيمياً) ومن دون تصادم أو تعارض مدمر. وهذا يشبه نسبياً النموذج الصيني. ولذا، فعداوة “إسرائيل” هي سبب “تفاوضي” ومدخل لحوار مديد، دبلوماسي وعسكري واقتصادي، لا يستقيم إلا بتسجيل “انتصارات” وتكريس توازنات. 

المواجهة التي تخوضها إيران بضراوة حول مشروعها النووي وترسانتها الصاروخية، ليست سوى “تقرير مصير” للطموح الإيراني الكبير، ولن تتراجع عنه قيد أنملة. ومهما كان الأداء الأميركي الميداني والسياسي، فهو محكوم بقناعة تاريخية قديمة: إيجاد السبيل للتحالف مع إيران لا العكس.. وبكلمات أخرى، التحالف مع “القوي” الضامن للاستقرار وللمصالح المشتركة. وهذا ما تحاول إيران تسويقه: دول الخليج العربية ضعيفة ومتهافتة ومجتمعات مأزومة ونسخة من إسلام عنيف وإرهابي وأنظمة فاسدة لا تنتج إلا الاضطرابات..

والمروع أن الأنظمة هذه تقدم “البراهين” يومياً على ما تروجه الدولة الإيرانية. فالمنظومة العربية برمتها لا تفعل إلا شن حرب شعواء وفوضوية لا حصاد فيها إلا الخراب، حرب على النفس وعلى الداخل وعلى مقومات الدولة وعلى بناها الاجتماعية والثقافية، بما يستوفي شروط الانهيار والدولة الفاشلة. 

ليس هناك اليوم في العالم العربي سوى جيوش عقيدتها الوحيدة معاداة مجتمعاتها والانقضاض عليها والاستيلاء على السلطة، جيوش هُزمت في كل حرب خارجية خاضتها، فانقلبت إلى عصابة إجرامية تفتك بدولها وكياناتها السياسية المتهاوية والخاوية. أما الكارثة، فهي تحول هذا السيناريو الجهنمي إلى استراتيجية “رسمية” تعتمدها المنظومة العربية، وتنفق عليها عشرات المليارات سنوياً. والمدهش هو العناد والتصميم عليها رغم أن نتائج هذه الاستراتيجية منذ ثماني سنوات، لم تجلب إلا الكوارث. إن فداحة المأزق اليمني وحده، تكشف مدى فساد هذه السلطات وعجزها وشدة ضعفها وانعدام أي كفاءة سياسية أو ديبلوماسية أو عسكرية، ليس لأن “الحوثيين” جبابرة، بل لأن الدول التي تواجههم، حطمت ومزقت وهشمت “حليفهم” اليمني المحلي، على نحو مخز.

وهكذا منظومة، تظن أن النفوذ والقوة والمكانة والاستقرار والازدهار هي “بضاعة” تُشترى بلا عمل وبلا مؤهلات وبلا إرادة، بلا خطط ولا سياسة ولا شرعية، بل بلا شعب فخور وطموح. أليس هذا كافياً لنفهم مدى ازدراء إسرائيل وأميركا والغرب وتركيا وروسيا وإيران لهذه الدولة العربية، ولنفهم أيضاً ومسبقاً مآلات “الحوار” بين تلك القوى على حطام كياناتنا ومجتمعاتنا؟

السابق
لا تُوقِظوا الخيولَ النائمةَ فنَومُها خفيف
التالي
حرب الناقلات ـ سياسة «حافة هاوية» إيرانية أم ذريعة أمريكية؟