حنين أبي لحكواتي رمضان أيضاً

كان أبي هو الذي ينهض في ليالي رمضان، الباردة آنذاك، لإعداد السحور. وليزيد من همّتنا على هجرة دفء فراشنا، من أجل التخفيف عن صومٍ لاحق، لا نتخيل أنه سيكون شاقاً، يحاول أن يغرينا: المأدبة السحورية الفاخرة، بالخبز المحمَّص والزعتر والزيتون واللبنة والشاي. ورائحة الخبز العربي المحمّص مثلت التحدّي لأنوفنا الكسولة النائمة، فنصحو نصف صحوة، ونتجرْجر إلى السفرة، بلا همّة. وأبي، المتحمّس دائما لإطعامنا، والقلق على قلة حماستنا نحن، كان يستنجد، في لحظتها، بما يعتقد، وعن حق، أنه سيرفع من إقبالنا على السحور. يلجأ إلى ما عرفه هو من قصص رمضانية، تدور كلها حول الحكواتي؛ كيف يجلس معتدلا على منصةٍ ضيقة مرتفعة، يلبس الجلباب والطربوش؛ يروي سيرة الأبطال المحبّبين، كما لو كان هو المسرح. ونحن كنا قد فرَزنا، من بين قصص الحكواتي العديدة، واحدةً، نطلب منه دائماً إعادتها إلى مسامعنا. قصة صديقه، أو ربما قصته هو، مع الحكواتي في واحدةٍ من ليالي رمضان. كانت ليلة الحكواتي الواحدة تنتهي دائماً عند نقطةٍ مشوِّقة، مطلوبٌ من المستمعين الصبر حتى اليوم التالي لمعرفة ما سيلحقها. وفي واحدةٍ من تلك الليالي، زادت حراجة عنترة بن شداد في المعركة، وتوقف الحكواتي عن السرد، فأغلق كتابه، وترك كرسيّه وأمسك بعصاه، وأعلن عن انتهاء الحلقة لهذه الليلة، فقام وانصرف المستمعون خائبين من تلك الحلقة بالذات التي لم تشف غليلهم.

اقرأ أيضاً: رمضان هو أبي

ولكن صديق أبي، أو أبي نفسه، لم يستطع النوم ليلتها، وأخذ يحسب كيف سيصوم في اليوم التالي، وهو على هذه الدرجة من القلق على بطله عنترة بن شداد. لم ينتظر كثيراً: قفزَ من سريره، وعاد ولبس ثيابه الدافئة، وتوجّه نحو منزل الحكواتي، وقصده أن يروي له بقية موقعة عنترة مع أعدائه، لكن الحكواتي امتنع عن طلبه، ففار دم أبي، المراهق، وعَلَت الخناقة بينهما. كان إصرار أبي على معرفة بقية القصة عالياً، قوياً. والحكواتي يصدّه بعناد. كيف له أن يفشي ببقية القصة لواحد من مستمعيه؟ كيف؟ وأين؟ عنده في المنزل، وهو بلباس النوم؟ أم يعود إلى المقهى المُغلق في هذه الساعة؟ أو يخون أمانة المستمعين الباقين؟ ليلتها، عاد أبي خائباً من عند الحكواتي، وصبر حتى اليوم التالي. لكن القصة بقيت، وهي قصة عن قصة. يرويها لنا في ليالي السحور الباردة، كل مرة كأنها أول مرة، فنصحو جيداً، وتنفتح شهيتنا. على وعدٍ بأنه سيرويها لنا غداً، في التوقيت نفسه؛ بتفاصيل المشاجرة بينه وبين الحكواتي، بالرياح التي هبّت ليلتها منْذرةً بعاصفة، بهندام الحكواتي المبْغوت من طلب أبي، وعدم فهمه لطلبه، بتعابير وجهه المضحكة، بما حلّ بعنترة بعد تورّطه بمعركة مع أعداء، هم دائما أقوياء عظماء بنظره…
أبي من مدينة صيدا الجنوبية. ومثلها مثل حمص وحماة السوريتين، كانت أحياء هذه المدينة مسكونةً بالحكواتي وقصصه، منذ أواسط القرن قبل الماضي. طوال أيام السنة، ولكن خصوصاً في شهر رمضان. يصف المؤرخ اللبناني طلال مجذوب، (تاريخ صيدا الاجتماعي 1840-1912)، ما كان يدور في صيدا بالذات من حكايات حول الحكواتي: إنه كان ينظر إلى مهنته بأريحية، يحترمها ويرى في أبطال قصصه نماذج للمروءة والشجاعة والرجولة. وإن صيدا عرفت خمسة حكواتيين على مدى قرن ونصف قرن. آخرهم الحاج إبراهيم الحكواتي الذي توفي سنة 1981، وإن أشهر مقاهي الحكواتيين في صيدا “قهوة الأجاز” و”قهوة الخيرية”، وإن موضوعاته تغرف من أبطال التراث وبطلاته مادته الآسرة: ألف ليلة وليلة، الظاهر بيربس، عنترة بن شداد طبعاً، أبي زيد الهلالي، سيف بن ذي يزن.. إلخ.
الآن، قبل أن ينتقل إرث الحكواتي إلى المسلسلات الرمضانية الفضائية التي يعرفها كلنا، كانت هناك مرحلة يمكن تسميتها “الانتقالية”. مرحلة أفضت إلى إنهاء وظيفة الحكواتي، فصار بلا وجود. البداية كانت مع الإذاعة، المصرية خصوصاً، التي أخذت دور الحكواتي، وصارت تبث القصص عبر الأثير، بأصوات فنانين معروفين. ويكون موسم القصص في شهر رمضان في ذروته. يتجمّع حول الراديو أفراد العائلة بين الإفطار والسحور، ليتابعوا قصص أبطالهم. وجاء التلفزيون، الأرضي أولا، الذي نقل القصص إلى مشاهد مرئية. ومسلسلات عرفت قمة مجدها، بل صارت كلاسيكيات: مدعومةً من الدولة، ولا حاجة عندها إلى الربح. ثم كان المطاف الذي نشهده اليوم، منذ انتشار الفضائيات. من طوفان مسلسلات، لا يمكن لأي بني آدم أن يتابعها كلها. آلاف الساعات على قصص وسيناريوهات وإخراج في تنافسٍ محمومٍ على كسب شركات الإعلان، و”قوانين السوق”، والأرباح وأجور النجوم.. إلخ.. وضجة ما بعدها ضجة.
ومع هذا، ليست المسألة في تسخيف المسلسلات التي تجتاح شهر رمضان مثل جرادٍ يصعب الاحتماء منه. المسألة في ذاك الرجل الذي اسمُه حكواتي، وحياته المنسية، مصير مهنته المندثرة، مثل مصير الكتَاب اليوم، المتجهين بدورهم نحو الانقراض… كيف أنهى حياته؟ أو توسطها؟ ما الذي فعله بعدما انصرف عنه المستمعون؟ هل توفرت له بدائل مهنية؟ أم سُدّت بوجهه أسباب العيش؟ كيف كان يقارن بين العزوة التي أتاحتها له مهنته، وتلهّف المستمعين إليه، وعيونهم البراقة، في اللحظات الحرجة… وبين الآن، إذ بالكاد يلقون عليه السلام؟
وأبعد من مصير الحكواتي الخاص؛ إذا كانت المسلسلات الحالية وريثة الحكواتي، فهذا قد يطرح أن الحكواتي هو، بدوره، وريث فن آخر يشبهه، من بين وسائط الفنون. هل نعرف شيئاً عن هذه الوسائط؟ عن مدى انتشار الحكواتي في مدن مشرقية، غير حمص وحماة وصيدا؟ هل التجمع حول الحكواتي كان يقتصر على فئاتٍ معينةٍ من المجتمع؟ على أساس أن للفئات الأخرى طرقها الخاصة بالتسلي عبر الحكاية؟ هل كانت تقرأ، أو بدأت تقرأ فردياً؟ أم إن الجيرة، أو العائلة كانت تخلق هي نفسها حكواتيها الخاص العائلي؟ وهل وجد في هذا الوسط حكواتية بين النساء؟ ثم: هل الشعوب الإسلامية وحدها المولعة بالقصص حتى تتحوّل حياتها إلى دوَران حولها، مهما كانت قيمتها، مهما كان أسلوبها؟ هل هي وحدها مولعة بالقصص، أم تتساوى مع شعوبٍ أخرى، أم تتأخر عن أخرى؟ هل تشهد ثقافاتٌ أخرى مثل هذه الحمّى القصصية، في كل المناسبات، وفي ذروة المناسبات، أي شهر رمضان؟ هل نحب القصص أكثر من غيرنا من أبناء الثقافات الأخرى؟

السابق
الجيش السوري ينبه سكان إدلب ببدء عملية عسكرية واسعة
التالي
لافتة ترحيب عبرية في المدينة المنورة.. و«إسرائيل» تثني