يتامى داعش الحقيقيين

داعش

القلّة المتبقية في الجيب الداعشي الأخير تضعنا أمام المآل التراجيدي لدولة الخلافة المزعومة، وهو إذا كان متوقعاً منذ البداية فإن تحققه على هذا النحو يخالف صورة التنظيم الذي شغل البروباغندا العالمية خلال سنوات. رأينا شيئاً مشابهاً من قبل، عندما نفخ الإعلام العالمي في قوة صدام حسين، والتهديد الذي تمثّله على الأمن الدولي، ثم في لحظة النهاية ظهرت ركاكة القوة المزعومة وانهارت قوات صدام، قبل إسدال الستار بالمشهد الشهير للقبض عليه.

لا نعلم كيف وردت فكرة إعلان الخلافة في أذهان قيادة التنظيم، لكننا نعلم جميعاً التسهيلات التي حظي بها أعضاؤه بدءاً من عراق المالكي، بهروبهم من السجن وبعدها باستيلائهم السهل جداً على عتاد وأسلحة وأموال تابعين للحكومة، ما مكّن التنظيم من اجتياح مناطق واسعة في سوريا. نذكر أيضاً حادثة إعدام الأمريكي جيمس فولي التي عجّلت باتخاذ موقف أمريكي أشد حزماً، وحينها لم تكن الغارات الأمريكية قد استهدفت داعش سوى أثناء تمدده في اتجاه إقليم كردستان العراق. قرار إعدام فولي أتى حينها بمثابة استفزاز واضح، ومن المستبعد ألا تعرف قيادة التنظيم تبعاته التي وصلت إلى نهاياتها الآن.

لا يمكن لعاقل إلا اعتبار هذه المغامرة باهظة الثمن نوعاً من العبث السياسي الذي يفضي إلى الانتحار، قد يحلو للبعض تصوير أصحابها كجهاديين أعمتهم الأيديولوجيا عن مقتضيات السياسية، وقد يصحّ ذلك على نسبة من العناصر دون القيادة. لقد شهدنا خلال سنوات صفقات صغيرة تكذّب رواية العمى الأيديولوجي، وشهدنا نقل عناصر التنظيم من مكان إلى آخر خدمة لأجندات صديقه اللدود تنظيم الأسد، فضلاً عن صفقات النفط التي تورطت بها جهات عديدة معه، بمعنى أن استثمار داعش من قبل قادته ومن قبل أجهزة استخبارات أتى بحنكة سياسية مغايرة للصورة العقائدية الصماء.

ستنكشف الحقائق كلها بعد فوات زمن كافٍ، والأهم أن الظاهرة برمتها أدت دوراً مشبوهاً في غاية الأهمية، من حيث المغزى والتوقيت. بصرف النظر عن النوايا الأصلية، الحكم في السياسة هو على النهج والنتائج، ولا شك في أن الاثنين كانا على الضد من الثورات التي انطلقت في المنطقة، والنسبة العظمى من سيطرة داعش على الأراضي أتت على حساب المناطق غير الموالية لعضوي التحالف الإيراني في سوريا والعراق. سكان هذه المناطق هم ضحايا الدرجة الأولى، قتلاً وتهجيراً وقسراً على نمط قاس من التدين، ثم قتلاً وتهجيراً بسبب عمليات التحالف الدولي التي اتبعت سياسة الأرض المحروقة.

باستثناء عناصر قليلة تابعة للتنظيم، خرج أهالي المناطق التي تم تحريرها على التوالي كأنهم خارجون من الجحيم، وبطريقة لا تخفي القمع والإذلال الذي تعرضوا له، ما يؤكد أن بقاءهم لم يكن اختيارياً أو محبة به. ذلك يدحض فكرة “الحاضنة الشعبية” التي جرى تداولها على نطاق واسع، وبررت إلى حد ما استهداف تلك المناطق عشوائياً، من دون اتهام أصحابها العرب بالتأثير على مراكز القرار الدولي. مثلاً، من يعرف نوع التدين السائد في الرقة، عاصمة الخلافة المزعومة، يدرك المسافة التي تفصل الأهالي عن نوعية التدين التي فُرضت عليهم.

إلقاء الكلام اعتباطاً عن “الحاضنة الشعبية” لم يتوقف عند الجغرافيا التي احتلها التنظيم، فقد اتسع مجالها الحيوي مع النفخ في قوته لترويج مقولات من نوع أن كلاً منا فيه شيء من داعش! من أجل إطلاق تلك الأحكام كان يكفي قليل من المعرفة شبه العامّية بعناوين من علم النفس وعلم الاجتماع، على نحو خاص؛ كان يكفي اعتبار تلك الكليشيهات إطلاقية، بحيث يصبح من يجادل فيها محل شبهة فوراً، إذ ما دام في كل شخص ذلك الداعشي الصغير لا يجوز له التبرؤ من هذه الحقيقة، وإلا أتى التبرؤ منه كمن ينكر ذاته!

اقرأ أيضا: نساء داعش تطلبن الرحمة في بريطانيا

رغم ما يستحقه الجانب الثقافي والاجتماعي لظهور التنظيمات الجهادية من اهتمام فقد تحول ليكون العامل الطاغي، مع عدم الاكتراث أو الانتباه جيداً إلى العوامل الثقافية والمجتمعية التي أتت بعشرات آلاف الجهاديين من الغرب والشرق، وتالياً عدم التوقف عند العوامل التي صنّعت جهاديين ممن عاشوا في الغرب، بمن فيهم غير المسلمين. من دون إطلاق اتهامات مباشرة، هذا النوع من التحليلات كان يذهب طوال الوقت ليصب في مصلحة أنظمة الاستبداد “ما قبل الثورات وما بعدها”، لأن التركيز على فكرة الحاضنة الشعبية المطلقة يجعل من تلك الأنظمة في موقع أهون الشرين.

المغالطة الأساسية في فكرة الحاضنة الشعبية هي عدم التفريق بين المؤثرات الاجتماعية النابعة من مجتمع حر، وتلك المحكومة أساساً بالقهر والكبت طوال عقود. التركيز على الإسلام كعامل ثقافي، مع إهمال عقود من القمع التام العسكري والمخابراتي، يفتقر إلى الموضوعية “وإلى النزاهة أحياناً”، لا لأن الاستبداد يولد التطرف وفق تبسيط معروف، وإنما لأن المجتمع نفسه لم تتح له الفرصة أصلاً للتعبير عن نفسه، والوقت المستقطع الوحيد كان من خلال المظاهرات التي انطلقت في بلدان الثورات، بما فيها البداية التي وئِدت سريعاً في العراق، وقد رأينا مطالب المتظاهرين التي تصدّرتها فكرة الحرية.

مع كل ما قد ينكشف لاحقاً من ألعاب استخباراتية استثمرت في داعش، يبقى الانتصار عليه وإقفال ملفه بشرى سارة لمتضرري الدرجة الأولى أولاً، حتى إذا كان الإقفال جراء تحقيق الهدف المنشود من المشغّلين. قد تُرى هذه النتيجة ملازمة لتكريس النظام العربي القديم وإعادة تدويره، الأمر الذي إن حمل قسطاً من الصحة يتعين معه ملاحظة الركاكة والضعف في حال الأنظمة التي يُعاد تدويرها، وركاكة وضعف بلدانها بما يبقي فكرة الاستقرار بعيدة المنال. أي أن المنتصر، في لحظة انتصاره، يفقد الخصم الذي ساعده على البقاء، ولن يكون متاحاً في المدى القريب اصطناع بعبع من العيار ذاته.

ربما يأتي الإسلاميون في ترتيب متأخر من يتامى داعش، وهم جميعاً على أية حال قد خسروا رهاناتهم بما يوازي الأذى الذي تسببوا به للتيار الديموقراطي. الصدارة في يتامى داعش هي على الأرجح لتنظيمات السلطة الأسدية ومثيلاتها، إذ أثبتت في الجولة المنقضية أن المفاضلة المطروحة هي بين تنظيمات، لا بين تنظيمات وأنظمة حقاً، وهذا الانحدار يصعب إيقافه. اليتامى الذين يأتون بعدها في الترتيب هم أصحاب مقولة “الداعشي الصغير في كلّ منا”، فغياب المعيار على الأرض يفقد الفكرة إكزوتيكيتها، والإصرار عليها بعد الهزيمة أشبه بنكتة صارت كالحة من كثرة الاستخدام، أما “الداعشي الصغير في كلّ منا” فمن حقه الآن أن يحظى بإجازة من كل هؤلاء!

السابق
لهذه الأسباب يستهدف «حزب الله» السنيورة
التالي
منظمة الاسلحة الكيميائية: الهجوم على دوما شمل إستخدام سلاح كيميائي