بيروت بلا جريدة «المستقبل»: شهادة شخصية

كان من المفترض هذا الصباح أن تصدر جريدة “المستقبل” بمانشيت: “سعد الحريري رئيساً لحكومة كل لبنان”. وأتخيل عنواناً فرعياً من نوع: “انتصر الاعتدال وفرض التنازل على الجميع من أجل لبنان واللبنانيين” أو “انتصر التوافق والتواضع فولدت حكومة العهد”.. وفق رطانة معهودة من قبل فريق سياسي وإعلامي يلطّف الانكسارات المتتالية منذ العام 2008.

هذا الافتراض ليس بمحله. الجريدة ماتت. حدث إقفالها ووقف طبعها هذا الصباح. ليس في شوارع بيروت اليوم، ولا على أرصفتها، من يوزع النسخة الورقية اليومية من جريدة أرادها رفيق الحريري مطبوعة صحافية عام 1999، مشروعاً يليق بذاك الحلم البديهي والصعب في آن واحد: صحيفة لأهل البلد.

حدث ما يشبه “القتل الرحيم” لهذه الجريدة، التي عانت زمناً مديداً من الموت السريري. فورثة الحريري الأب كانوا أضعف من أن يمدوا أسباب الحياة بهذا الجسم الضخم والهائل: إرث رفيق الحريري المدوّخ بسعته. ولا إدانة هنا للورثة أبداً.

شهدت “المستقبل” تحولات وانقلابات، عايشتها كصحافي عامل فيها منذ اليوم الأول للتأسيس وحتى العام 2016. قضيت فيها أحلى حقبات العمر (من سن 33 عاماً إلى سن الخمسين). 17 عاماً بلا انقطاع، في أطول فترة وظيفية بحياتي. الحقبة الأولى هي بعنوان “المعارضة الخفرة”. كيف يمكن صوغ لغة لائقة بالجمهورية الثانية أولاً، وكيف يمكن ترجمة تلك الطموحات الكبرى للبنانيين ببلد جديد، تواق لاستلحاق ما فاته بسنوات الحرب. بل كيف يمكن “ترميم” وإعادة تلك القيم الديموقراطية إلى الحياة السياسية.

اقرأ أيضاً: «المستقبل»… جزء من سقوط لبنان

في تلك المرحلة اختبرت عنادي، وعناد معظم الزملاء أيضاً، بمرونة رفيق الحريري، فتوقفت عن الكتابة السياسية متفرغاً فقط لملحق “نوافذ” الأسبوعي. الملحق الذي تلطى بالعنوان الأدبي والثقافي والفكري والاجتماعي، ليضخ بذكاء أو بحيلة، ذاك الخطاب “السياسي”، المتمرد حتماً.

برعايته، أو بتواطئه، ضمن رفيق الحريري هامش ملحق “نوافذ” بذريعة، غالباً ما استخدمها: “مثقفون لا أحد يفهم ما الذي يريدونه”. وهو كان يفهم بالتأكيد.. ويدعم.

في الحقبة الثانية، وتحديداً في خريف 2004، باتت “المستقبل” هي رأس الحربة (وجريدة “النهار” أيضاً). إنها عهد “المعارضة الصريحة”. تحولت الجريدة إلى أقصى ما يطمح إليه الصحافي، أي الخوض في معركة التغيير، المساهمة العضوية والفعّالة في التحول والانتقال، كما في الانقلاب السياسي على حال الاستنقاع. هي مرحلة الحرية نقداً وقولاً وكشفاً.

هذا، سرعان ما سيدفع رفيق الحريري شخصياً ثمنه. هي أشهر قليلة قبل أن ينفجر طنان من الـ “تي. أن. تي” بالرجل الذي اكتنز أجمل الوعود لبلده وللمشرق العربي، رغم كل شطحاته أو مبالغاته أو أخطائه البشرية.

هكذا، أتت المرحلة الثالثة، بمأسويتها وبعنفوانها: “انتفاضة الاستقلال”. وحينها كانت تماماً جريدة في مهمة، جريدة تحمل “المانيفستو”. كل عبارة فيها، كل مقالة، كل عنوان.. كان ذخيرة في أنبل معارك لبنان والمشرق. هنا، تتوضح معاني الصحافة: صوغ الرأي العام، مخاطبته ومحاورته ومشاركته في الفعل والتأثير وصنع القرار.

في تلك المرحلة المشبعة بنصاعة الوضوح وزخم الحماسة وقوة القناعة، كانت الجريدة تستحق اسمها وسبب وجودها: القبض على المستقبل. لكن ما أصاب لبنان نفسه ضرب الجريدة أيضاً. حرب 2006، التي جرّت لبنان إلى الحفرة التي حاول الخروج منها عبثاً منذ 1969، فرضت حقيقتها المريرة: لا مناص لهذا البلد من تراجيديا المشرق العربي العالق بين الشر الإسرائيلي وحقارة الاستبداد العربي.

مع ذلك، استمرت الجريدة في خطها الصريح والعنيد. كان الإيمان بـ”الجمهورية الثانية” المشتهاة، والوفاء ليوميّ 14 شباط و14 آذار 2005، أشبه بالإيمان الديني الذي لا يقاربه الشك، إلى حد نسيان غريزة الصحافي النقدية، الشكاكة، طالما أن “الصواب السياسي” كان بوصلتنا.

لحظة 7 أيار 2008، الهجوم المسلح من رثاثة وزعران وسقط متاع ما يسمى أحزاب “الممانعة”، بقيادة جهاز “حزب الله”، على بيروت، بالرصاص والقذائف الصاروخية، واحتراق طابقين من مبنى الجريدة. هي المرحلة الرابعة الصعبة، وبدء الموات التدريجي للصحيفة، التي صارت فجأة نشرة إعلامية مضمخة بالخوف والحذر وضعف المناعة، بعدما شهدت على مدى ثلاث سنوات مع اللبنانيين بأس “الإرهاب” والاغتيالات والتفجيرات الغامضة (المعلومة المصدر والهدف).

تضافرت مع هذه الهجمة المروعة والحقودة واللئيمة، سياسة انهزامية عربية ودولية، تركت أهل “المستقبل” ومواطني 14 آذار (على الأقل، نصف الشعب اللبناني) كأيتام على مائدة اللئام. ومن ينسى المشهد المخجل عام 2009 في قصر بشار الأسد؟ منذ تلك اللحظة، بدأت جريدة “المستقبل” سياستها التحريرية الجديدة: الكتابة بالممحاة. إذ صار فن الكتابة فيها حذف القول، وتجنب الرأي والموقف. أن تتخذ أسلوباً صعباً هو “المعنى في قلب الشاعر”.

وكما مأسوية وعنفوان 14 شباط 2005، أتت تلك اللحظة التاريخية المشتهاة، ربيع 2011. حينها اكتسبت الجريدة روحاً جديدة في حقبتها الخامسة. فبعد تردد محكوم بالخوف من إرهابية النظام السوري، ومحكوم بـ”صداقة” نظام حسني مبارك و”أشقائه”، انطلقت “المستقبل” باندفاعة أخلاقية ومهنية، لاحتضان خطاب “الربيع العربي” كامتداد طبيعي للتوق الأصيل نحو “الحرية والعدالة”.

باتت مذاك، بل وقبل ذلك، جريدة بلاد الشام حقاً، منبراً للثورة السورية بكل أطيافها، للناشطين والمثقفين العرب الذين انحازوا لشعوبهم بلا تردد. وتحولت إلى الصحيفة “المحرمة”، الموصومة بشرف معاداة الاستبداد ورموزه. وكان هذا العبء على عاتق سعد الحريري شخصياً، الذي تقبله وأراده وأيده إلى حد الإرهاق. وهو سرعان ما سيكتشف صعوبة الاستمرار في ذلك، مع قيام الثورات المضادة التي أرادها “النظام العربي”. حينها بات المطلوب من الأعداء ومن الحلفاء: وقف السياسة وإسكات الإعلام.

التقى هذا المآل السياسي والإعلامي مع الأداء الإداري الرديء، ومتضافراً مع شبه الإفلاس المالي المتعمد. وكل هذا، مع ما سمي “أزمة الصحافة الورقية” التي هي مجرد “فقر خيال” وعسر على التأقلم والاستجابة.

كان لا بد، في الحقبة السادسة، والحال هكذا، أن تتحول جريدة “المستقبل” إلى منشور دعائي لا يحتمل سوى الصوت المهزوم والمهادن لسعد الحريري ولتياره المحاصر والمستضعف. جريدة تجتهد أن تعبئ صفحاتها بالصمت.

موتها لا يمحو ذاكرتها، ذاكرة بلاد وتاريخ بشر وأمكنة.. وأفكار. موتها علامة لولادة جديدة بعنوان جديد. هذا ما تعلمناه من امتهان “المستقبل”.

السابق
اليسا: مبروك للمرأة اللبنانية ٤ وزارات
التالي
بعدما فضحت حبيبها..قمر تستغيث بالرئيس عون