العودة إلى أحضان الأسد

كان المشهد الافتتاحي من بطولة عمر البشير: رجل يحكم السودان منذ ثلاثين عاماً، بعد انقلاب عسكري على الحكومة المنتخبة آنذاك، عام 1989. مُلاحَق دولياً بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور. حكمه الفاشل أفضى إلى تقسيم السودان. معروفٌ ببطشه. أعلن أخيرا عن ترشّحه لـ”انتخابات” 2020 الرئاسية.. وهو الآن يواجه انتفاضة شعبية، ضده وضد سياسته التجويعية، يصفها، كما يفعل بشار، بـ”المؤامرة الصهيونية”، تهدف إلى “النَيل من سياسته الرافضة للتطبيع مع إسرائيل”.
ليس هناك من رمزيةٍ تتفوَّق على هذه التي يجسّدها البشير، بتدشينه موسم العودة العربية إلى بشار، بكلماتٍ ممتلئة بنفسها، بلقاء حارٍّ مع بشار، بشوقٍ متبادَل، وطبعا بالنشوة المشتركة في الانتصار على شعبيهما، وقد سبق البشير بشاراً بعقود. ولعلّه الآن يتبادل معه النصائح، فيخلص إلى انتصارٍ آخر ضد الانتفاضة المشتعلة في دياره؛ الأول يحمل للثاني خبرة “الصمود” بعد هذا الانتصار، فيما الثاني يسنده وقت الشدّة. هل يحتاج المرء إلى رمزيةٍ أقوى من هذه: شبيه بشار الأسد، في كل شيء تقريباً، إلا توقيت شعبه، يشقّ طريق العرب، مجدّداً، نحو دمشق.

اقرأ أيضاً: سوريا «الواحدة».. من السلطنة الى الانتداب

يتقدم العرب الباقون بخطواتٍ خلفية، بعد المشهد الافتتاحي: كما صار معلوماً، الإمارات وسفارتها في دمشق، والبحرين واستمرار “عملها الديبلوماسي” مع سورية، وزيارات علي مملوك إلى مصر وعُمان والسعودية. وهذه الأخيرة، أي المملكة السعودية، كانت تحتاج، وما زالت، إلى صكّ براءةٍ على جريمةٍ لا تقلّ وحشية، بأسلوبها “المبتكَر”، متهم فيها حاكمها الفعلي، أي ولي العهد؛ جريمةٍ عنوانها جمال خاشقجي، تحولت بعد أشهر من ارتكابها إلى عين هابيل تلاحق كايين.. رمزٌ آخر لا يقلّ وزناً عن ذاك الذي يمثله عمر البشير: ملكٌ مقبل، يرتكب جريمة جديرة بالسلاطين، يزجّ في السجون أقلّهم ترحيباً به، لن تكون لديه مشكلة مع بشار؛ إنما بالعكس، سوف يكون بشار رافعته المعنوية، فمجرد مقارنة بين جرائم الاثنين تريح ضميره، وتحول اغتياله خاشقجي إلى لعبة عيال، إذا ما قيست بالاغتيالات الصناعية التي قام بها بشار بحق ملايين السوريين. نعترف بكم، تعترفون بنا، عنوان “المصالحة العربية” و”رفع الحظر عن سورية”، (تصريح السعودي مشعل السلمي رئيس الوفد السعودي في “البرلمان العربي” الشهر الماضي).
طبعاً، لا بد، في المقابل، من “تسريبات المصادر”، من نوع أن السعودية قادمة إلى دمشق، من أجل “تمويل إعادة الإعمار”، أو من أجل “مقارعة النفوذ الإيراني”، فقط الإيراني. وتحت هذين الدورَين، “رؤى” سعودية للوضع السوري، من قبيل أن إعادة الإعمار مثلاً، أي تمويلها لها، مشروطة بـ”تقدم حل سياسي” في سورية، وقوامه “الدستور والانتخابات ووضع المعارضة”؛ أي أن الحاكم السعودي فوق أنه عائد، ينظف سجلّه، وسجل نظيره، يستعد بأدواته المناوراتية البسيطة أن يميّع، أو يساوم، أو يتبحّر في الصفقات.. ولا مرة إلا لصالحه، أي حماية عرشه.
أما العجيبة في هذا الفصل، فردّة فعل الأسد ورفاقه من محور “المقاومة”، على هذه العودة. عنوان بحد ذاته، يلخصها: “هرْولة المهزومين للعودة إلى دمشق”. مقال لا يفوته انتصار الأسد، ولا ثباته فوق شعبه، ولا النهاية المخزية للثورة ضد بشار.. يستند إلى تلك الحقيقة، ليرفع شارة النصر، ليشمت بالعرب الذين قاطعوا بشار، ثم يعودون إليه اليوم ركضاً، بعدما وجدوا فيه صلابةً في مواجهة شعبه، هي أمثولة لهم، للسنوات العجاف التي تنتظرهم. مع أنه ليس هو الحاكم الآن. ولكن ذلك لا يهمّ، لا الشامتين ولا المهرولين، الواقعين بدورهم تحت أشكالٍ من النفوذ الخارجي. المهم الآن، بعدما أفشل العرب الثورة السورية، بعدما أشبعوها “جهاداً” وأموالاً واعتباطياتٍ، وهذا طبيعي، نظرا لتركيبتهم غير السوية، ولا الثورية ولا الإصلاحية، ولا حتى التقليدية… بعد هذا الفشل، لا بد من اللقاء ثانيةً مع بطلٍ باع كل شيء من أجل كرسيه؛ لقاء دشنه بطل آخر، كان سباقاً في ضرب الأرقام القياسية في الإجرام والفساد.
في الشماتة الممانِعة من أولئك العرب، تجاهل، أو لغة أخرى. الواقع أن بشار ليس هو المنتصر. إنما الربيع العربي هو الذي هُزم. في بؤرته الأخيرة، سورية، الأطول أحداثاً، الأوسع دموية ومأساة. ما من عربي، أو سوري واحد انتصر بحصيلة هذا الربيع. أصحاب الغنائم، الطامعون بموارد سورية وموقعها، ازداد عددهم، روسيا، إيران، تركيا، إسرائيل.. هذا غير الولايات المتحدة التي أضاعت نهجها من دون سطوتها، ولم نَعُد نفهم تماماً موقفها، ولا تحرّكاتها على الأرض السورية. ولكن كل هذه “الأضرار” لا تساوي شيئاً أمام الرئاسة، السلطة، ولو الصُورية. والعرب، بعودتهم إلى بشار، يكادون أن يصرخوا بلقائهم الوجودي العميق معه؛ ولن تزيد غنيمتهم عن التي انتزعها المتنافسون على سورية، الحائمون حولها كالضباع؛ ولكل ضبع نهجٌ خاص به. ولكن لا بأس: صَكَا براءة يتباريان، يتساويان في الإفلات من العقاب، كلٌ يخدم نفسه على قدّ حظه من القوة، على تنوّع هذا الحظ، واختلاف سُبُله.
نصيب لبنان من هذه “العودة” خير شاهدٍ على ذاك اللقاء الوجودي بين أنظمة الحكم العربية: الذين ينشدون العودة إلى سورية “المنتصرة”، لو كسبوا، فسوف ينالون مزيداً من السلطات والوزارات وحرية أكبر في السطو على خيرات الدولة. فيما غرماؤهم، لو عرفوا كيف يدوزنون ألحانهم، ويضبطون إيقاع حركتهم، سوف يكسبون، هم أيضاً. المهم من يغتنم “حصته”، بعودته إلى سورية، بشروط، أو من دونها. بحُماتها ورُعاتها والغربان المتناتشين على “إعادة إعمارها”. عربا كانوا، أو غرباء.

السابق
سوريا «الواحدة».. من السلطنة الى الانتداب
التالي
احتجاجات على مواقع التواصل بسبب إلغاء هدف لبناني صحيح في المرمى القطري