«ثقافة» الحرب والمفارقة اللبنانية

في 13 تشرين الثانِي الماضي، أقر مجلس النواب اللبناني قانون الأشخاص المفقودين والمخفيين قسراً بعد أكثر من 36 عاما من النضال الذي خاضه أهالي المفقودين بكل عذاباتهم وتصميمهم وجَلَدهم، في بادرة طيبة ولو متأخرة لمحاولة معرفة حقيقة فقدانهم واختفائهم القسري في قضية من أقسى قضايا الحرب الأهلية وأكثرها إيلاما.

الواقع أن هذا القانون الذي أقر متأخرا كان يجب أن يكون من أوائل القوانين التي تقر بعد انتهاء الحرب مباشرة، لما له من بُعد إنساني وإجتماعي وحتى سياسي يمس بأسس السلام الأهلي في البلد.الحرب ليست ضحايا ودمارا وحسب، بل هي “ثقافة” حياة ولا نغالي إذا قلنا إننا لم نخرج منها بعد، مع انتشار ثقافتها وطغيانها على تصرفات الأغلبية من الناس سياسيا أو اجتماعيا. اللبنانيون بعد الحرب توجهوا صوب “الإصلاحات” السياسية في بنية النظام والتي لم يتحقق منها شيئ سوى ما يتعلق بالمحاصصة الطائفية، وإعمار ما تهدم وهذا ليس بالشيء الخطأ بطبيعة الحال، ولكن الخطأ كان بعدم مواكبة هذه الأمور بسعي لإقتلاع “ثقافة” الحرب من النفوس عبر تشكيل لجنة مصارحة ومصالحة كما هي الحال في الدول التي مرت بهكذا ظروف ومنها جنوب أفريقيا على سبيل المثال لا ألحصر. وكانت النتيجة ما نشهده اليوم من تعميم لهذه الثقافة سياسيا عبر الخطاب المتشنح والعالي السقف والتهييج الطائفي والمذهبي وحتى المناطقي، وإجتماعيا عبر التصرفات غير الحضارية التي نراها في شوارعنا إبتداءً بطريقة قيادة السيارة أو عدم إحترام أي قانون والاستخفاف بكل ما يمت للدولة والقانون بصلة مع التأكيد على بعض الفوارق أو نسبة الممارسات بين منطقة وأخرى، الأمر الذي يجعلنا ونحن وسط فرحتنا بهذا القانون في شك من تطبيقه كغيره من القوانين التي أقرت ونامت في الأدراج.

اقرأ أيضاً: ضباب التشاؤم والفساد وصوت الحق المكتوم

إن الأحداث التي حفل بها الشهر الماضي وما نمر به هذه الأيام من تطورات تثبت كل ما نقوله عن عدم تنقية ذاكرة اللبنانيين من الحرب وأدرانها، لدرجة نشعر معها أن اللبناني، وفي مفارقة غريبة عجيبة لا يزال بعد إقرار هذا القانون، الذي يذكرنا بأكبر مآسي الحرب، مستعدا لإعادة إنتاج هذه الحرب وكأن شيئا لم يكن بمجرد أن يتحدث أحد الإستفزازيين مهما كانت تفاهته عن أحد الرؤساء السابقين، كما حدث مؤخرا في حلقة من حلقات أحد البرامج السياسية التلفزيونية نافيا عنه صفة الشهادة، وكما يحدث اليوم بعد إستفزاز وهاب وخطابه البذيء، الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي غلوا وحقدا وتهديدات.

قبل ذلك حصل الكثير وبعدها أيضا وأيضا، كل هذا بسبب الفشل في بناء نظام ودولة قادرة وعادلة تفرض احترامها وقيمها على الجميع. ويجب الإعتراف هنا بأن الأشخاص الذين يستفزون دائما ويستثيرون المشاعر إنما ينتمون إلى فريق سياسي واحد غالباً وهو الفريق الذي ما زال يخوض الحرب بأساليبه واستقوائه على لبنان واللبنانيين لحسابات بعيدة كل البعد عن المصلحة اللبنانية تحت مسميات المقاومة والممانعة، في مقابل أفرقاء سياسيين آخرين عاجزين عن الاتفاق على خطة للمواجهة سياسيا ولا حول لهم ولا قوة عسكرية، وهو ما يمكن القول إنه يؤخر، في ظل غياب قرار خارجي بالتفجير حتى اليوم، الحرب الشاملة.

إن البلد اليوم يعيش في أزمة خطيرة والاحتقان قد بلغ مداه والنفوس مهيئة، وكذلك الوضع في المنطقة، وما التصريحات التي أطلقها وزير خارجية الفاتيكان مؤخرا أمام وفد لبناني والتي لم يلتقطها أحد من المسؤولين باستثناء “رادار” وليد جنبلاط، إلا مؤشر على ما ينتظر المنطقة ولبنان من ضمنها من أحداث وتطورات قد تغير وجه المنطقة وخريطتها الجغرافية والسياسية. فهل نرعوي ونتواضع لننقذ بلدنا أم أننا سنعيد التجربة المرة ونشرب من الكأس نفسه تنفيذا لأجندات خارجية لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟ سؤال من الصعب الإجابة عنه بتفاؤل في ظل ما شهده ويشهده البلد هذه الأيام. ولا يسعنا في الختام إلا توجيه التحية والإكبار إلى المناضلة السيدة وداد حلواني على مثابرتها مع رفاقها ورفيقاتها في سعيهم لإقرار قانون المفقودين والمخفيين قسراً، على أمل أن لا نضيع ثمرة جهادهم وجهودهم بحماقاتنا التي تهدم ولا تبني.

السابق
السفير السوري: سوريا تحتاج عودة أبنائها
التالي
تقديم جائزة هاني فحص لصناع السلام: لم ينفصل عن طائفته لكنه لم يستغرق في الولاء لها