الثورة الحسينية في مواجهة العصبية القبلية

لا يمكن أن نتصور أن هناك نهاية للحديث عن الثورة الحسينية، لأنها ثورة شكلت امتدادا لثورة الأنبياء وخاصة لثورة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واستطاعت هذه الثورة بما تملك من خصائص فريدة أن تستمر منذ ان حصلت إلى عصرنا الحاضر، وهذه الخصائص نلحظها في نواحي عديدة، سواء من ناحية من قاد هذه الثورة وخطط لها وهو الحسين بن علي وهو إمام معصوم من أئمة أهل البيت عليهم السلام، أو سواء من ناحية أهداف الثورة التي لا تنفصل عن أهداف الأنبياء في الإصلاح في الأرض وربط الناس برسالة الإسلام، أو سواء على مستوى الجهة التي واجهتها الثورة وهي النظام الأموي والذي هو عبارة عن حكم قبلي، قاده وأسس له معاوية بن أبي سفيان، ولا رابطة له بالإسلام إلا من الناحية الشكلية الفارغة من جوهر الإسلام ومضامينه الأساسية.

هناك أبحاث وعناوين كثيرة طرحت وتحدثت حول موضوع الثورة الحسينية، إلا أنه من المواضيع الهامة التي لا تقل عن غيرها أهمية موضوع علاقة الثورة بمواجهة الروح القبلية التي عادت ألى المسلمين وكانت سببا في التمهيد لبناء حكم ملكي يترأسه الأمويون ، لذا كان من المناسب توضيح هذا الجانب من ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وفِي دورها في إنقاذا الأمة من هذه الثقافة القبلية، التي كانت سببا في دمارها قبل الإسلام، ونحاول أن نمهد أولا لهذا الموضوع بالحديث عن رفض الإسلام ومواجهته للعصبية القبلية، وكيف عادت هذه العصبية إلى المسلمين بعد وفاة الرسول الأكرم، ومن ثم نتحدث ثانيا عن دور الثورة الحسينية في مواجهة هذه العصبية، ونختم بالحديث ثالثا عن إمامة أهل البيت أنها ليست حكما وراثيا كما هو لدى بني أمية، ونبدأ حديثنا هذا من خلال العناوين التالية :

الإسلام ورفض العصبية القبلية

حياة البشر على الأرض لا تستقر إلا إذا ارتبطت بنظام صحيح يحقق لها الأمان والصلاح، وخاصة في بيان حدود علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهذه العلاقة لا يمكن لأحد أن يعرفها بكمالها وتمامها إلا الله تعالى، لأنه هو الخالق للبشر وهو العارف بما يصلحهم من قوانين وأنظمة اجتماعية، وليس ذلك بمستطاع البشر، إلا على نحو جزئي لا يثمن ولا يغني من جوع، فكان أن بعث الله الأنبياء وأرسل معهم شرائع للبشر، تهديهم إلى طريق الكمال والخير والصلاح في هذه الحياة، وكان خاتم الأنبياء وآخرهم محمد بن عبد الله صلوات الله عليهم أجمعين، وأرسله تعالى نبيه رحمة لكل أهل الأرض، لكن البداية كانت في أرض الجزيرة العربية، وكان العرب في غاية التخلف والإنحطاط الفكري والأخلاقي والإجتماعي، فكانوا يعبدون الأصنام والأوثان، وليس لديهم نظام اجتماعي يربطهم ببعضهم البعض إلا العصبية القبلية التي حملت لهم الويلات والمآسي، وهذه العصبية شكلت الحاجز الذي منع العرب من بناء مجتمع حضاري يستفيد من قدرات بعضه البعض، كما دفعتهم إلى الصراعات والحروب، وجعل الأمم الأخرى يطمعون بهم، وينظرون إليهم أنهم مجتمعات متخلفة قاصرة عن إدارة نفسها وتحتاج إلى وصاية الآخرين عليهم.

وأخطر ما في الروح القبلية أنها منعت العرب من احترام الإنسانية التي تربط البشر ببعضهم البعض، مما جعل العرب يرفضون مبدأ المساواة في الحقوق مع غيرهم، وجعلوا الأساس في حياتهم العصبية القبلية، فيجب نصرة القبيلة حتى ولو كانت في ذلك ظالمة للآخرين، وهذا ما دفع القبائل العربية إلى الإنحراف في كافة محطات الحياة وخاصة العقائدية، فأرسل الله تعالى نبيه محمدا إليهم وأنزل عليه القرآن الكريم فيه هدى لهم إلى الحياة الصالحة، ودعاهم تعالى إلى التغيير من فهمهم للحياة ولقيم الخير والصلاح، وخاصة لموضوع التفاخر والتنافس بين البشر، أنه لا بد وأن يكون ذلك على أساس الإرتباط الصحيح بالله، الذي يدفع الإنسان إلى التنافس الصحيح وهو ما كان على فعل الخير وقيم الأخلاق الفاضلة، وانه لا فخر لإنسان على آخر في النسب ولا في القبيلة ولا في المال والملك والسلطة، بل في العمل الصالح القائم على عقيدة صحيحة ومستقيمة، ومن الآيات القرآنية التي دفعت العرب إلى ترك العصبية هي قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)) الحجرات

خاطب الله تعالى في هذه الآية ليس العرب فقط، بل كل الشعوب والمجتمعات عربية كانت أم غير عربية، لكن بدأ توجيه هذا الخطاب أولا للمجتمع العربي، الذي كان أكثر المجتمعات تخلُّفا ، ولا يخفى أن العصبية هي مقيتة بكل محطاتها سواء كانت قبلية أم غير قبلية، ودل على عموم الخطاب في الآية قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ومفردة الناس تشمل الناس جميعا، ولا تخص جماعة منهم دون جماعة أخرى، ثم إن كلمة الناس مشتقة من الأنس، والإنسان جعله الله بالفطرة لا يأنس إلا بأخيه الإنسان، وخاصة أن الأنس يبعث على التعاون والتكامل والتكافل في بناء الحياة، والتي لا تبنى بجهد خاص، بل بجهد جماعي.

ثم إن الله تعالى لفت أنظار العرب إلى أنه تعالى هو الذي خلق البشر شعوبا وقبائل، لكن ليس على أساس أن تكون القبلية والشعوبية مصدرا للتفاخر والتنافس، بل مقياس التفاخر والأفضلية بين البشر يكون على أساس تقوى الله، والإرتباط بمنظومة القيم والتعاليم والتشريعات، التي تدعو الى قيم المساواة والفضيلة والتسامح، وأن خير الناس أنفعهم للناس، قال تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، وحث الله تعالى القبائل العربية وغيرها على الإنفتاح والتعارف فيما بينها، وأن هذا التعارف مصدر غنى وقوة للجميع، وعلى الإنسان أن ينظر إلى أنه بحاجة لأخيه الإنسان حتى ولو اختلف معه في النسب أو الأمة أو اللغة أو اللون.

نعم فالآية المتقدمة أعطت قيمة للقبيلة ولم تنف دورها بالمطلق، بل نسبت جعلها لله نفسه، حيث قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ )، فالإنسان في علاقته الإجتماعية يمر بمراحل ثلاث، المرحلة الأولى هي مرحلة الزوجية لذا قال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ ) و المقصود بخلقه من الذكر والأنثى الأب والأم ، والمرحلة الإجتماعية الثانية للإنسان هي مرحلة القبيلة، والتي هي عبارة عن انتساب مجموعة من الأسر إلى أب، والمرحلة الإجتماعية الثالثة هي تحول القبائل إلى شعوب، والشعوب مفردها شعب، والشعب هو مؤلف من جملة من القبائل .

وأيضا من الآيات التي نهت عن التفاخر بالأنساب وحثت على ترك العصبية القبلية قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ ) الحجرات / 11 ، وهذه الآية فيها تعريض بالعرب الذي سادت بينهم روح السخرية من بعضهم البعض، والتي كانت مصدرا لحصول الكراهية والفتن، وعاملا يدفعهم إلى الحروب والصراعات، والتاريخ يخبرنا عن حصول الحروب بين العرب، لا سيما حرب الأوس والخزرج التي دامت مائة عام، ولم تستطع أي قوة أن تضع حدا لهذه المأساة، إلا بعثة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي حملت معها القيم والمبادئ التي استطاعت أن تغير من تفكير العرب، وجعلتهم يضعون العصبية القبلية جانبا.

فالاسلام وضع حدا للمأساة في المجتمع العربي ووضع حدا للإنقسام الحاصل بينهم بسبب العصبية، وجعلهم يشعرون بالأخوة الإنسانية والإيمانية والتي هي أقوى من الرابطة النسبية، وإلى ذلك أشار تعالى بقوله المجيد : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) آل عمران / 103، فالله يذكر العرب بنعمة الإسلام عليهم، والذين أصبحوا بفضله إخوانا متحابين ومتسامحين، وكانوا قبل ذلك أعداء بسبب العصبية القبلية، التي كانت مصدر تأخرهم ومآسيهم، وأصبح العرب بفضل الإسلام مجتمعا حضاريا يُؤْمِن بالإنسانية وأنها رابطة تدعو للإنفتاح والتعارف بين كل الأمم والشعوب، ومصدرا لنشر رسالة الإسلام، والدعوة إليه، ولما توحدت كلمة العرب تحت لواء الإسلام، استطاعوا أن ينتصروا على الأمم المستبدة بهم.

عودة المسلمين إلى العصبية القبلية

عانى النبي كثيرا مع العرب لاستئصال العصبية القبلية، التي شكلت عائقا أمام دخولهم في الإسلام، وخاصة أن العصبية القبلية تجعل الإنسان يتمسك بعقيدة الآباء حتى ولو كانت على ضلال، ولكن العرب دخلوا في الإسلام وتخلوا عن عصبيتهم القَبَلية، بفضل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكن بقي شيء من رواسب هذه العصبية في نفوسهم، وكلما وجدت لها ظروفا مساعدة كشفت عن نفسها.

وهذه العصبية سرعان ما عادت إلى المسلمين بعد وفاة رسول الله وحتى قبل دفنه، حيث عقد الأنصار اجتماعا بينهم لاستخلاف سعد بن عبادة، وعلم المهاجرون بهذا الإجتماع فاعترضوا على هذا الإستخلاف، واعتبروا أن قريش أحق القبائل المسلمة بخلافة النبي كون النبي صلوات الله عليه منها، فاعترض الأنصار عليهم بأنهم آووا النبي ونصروه فهم أحق به، وتعاليت الصيحات والتهديد بين الطرفين.

ويؤخذ على المجتمعين في سقيفة بني ساعدة مآخذ عديدة، ولا يمكن إغفالها، وخاصة أن موضوع هذا الإجتماع هو في غاية الخطورة والأهمية، وهو موضوع الخلافة سواء كان لجهة المستخلف بالفتح وهو النبي، أو سواء لجهة المستخلف عليهم وهو عموم المسلمين، ويمكن لنا أن نشير إلى أبرز هذه الملاحظات، ونعرضها على النحو التالي :

المؤاخذة الأولى : يكشف اجتماع سقيفة بني ساعدة على عودة العصبية القبلية إلى المسلمين، وليس بالضرورة إلى كل المسلمين، بل إلى بعضهم، وخاصة أن الأنصار أعلنوها بشكل صريح أن قبيلة الأنصار هي أولى من بخلافة النبي من غيرها من القبائل ، وهذا إن دل فإنه يدل على أن العصبية القبلية لم بتم القضاء عليها بالشكل الكامل، كما أن موقف قريش وهو موقف الأغلب كان رافضا، لخلافة الأنصار للنبي، وصرحوا أنه ليس هناك من هو أولى منهم بالخلافة، متذرعين بكون النبي من قريش، وقبيلة قريش أولى به، ولا يخفى أن قريش هي النسب الذي يجمع بين القبائل في قريش، والمنطق الذي نادى به الجميع هو منطق قبلي لاجدال في ذلك.

المؤاخذة الثانية: أن المبدأ الذي تم على أساسه الإجتماع في سقيفة بني ساعدة لا يؤيده دليل من الكتاب والسنة، سواء لجهة الأنصار أو لجهة قريش، فليس هناك نص من الكتاب والسنة، يدل على أن الخليفة يتم انتخابه من الأنصار لأنهم نصروا النبي، كما أنه ليس لوحدهم نصروا النبي، بل شاركهم في ذلك قبائل أخرى، كما أنه ليس هناك ما يدل في الكتاب والسنة على أن الخليفة للنبي يكون في قبيلته وعشيرته، كما يؤخذ على الذين نادوا بهذا المبدأ أن يتسلم الخلافة أهل بيت النبي لأنهم أقرب الناس إلى النبي، وهذا ما لم يحصل.

المؤاخذة الثالثة : لم تخضع أحداث السقيفة لمنطق الشورى بقدر ما خضعت لمنطق التهديد والوعيد بين المتحاورين، حيث تم استبعاد باقي القبائل، وفِي مقدمتهم بني هاشم، ولا يمكن أن نصبغ اجتماع سقيفة بني ساعدة بصبغة الشورى، وهذا من المآخذ التي تكشف أن ما نتج عن سقيفة بني ساعدة، كان خاضعا للروح القبلية عند الأنصار والقرشيين، وفِي تصوري بأن الأنصار سارعوا إلى بيعة خليفة منهم، لأنهم يعلمون بأن قريشا لا ترضى بالبيعة للأنصار ، بل كان اجتماع الأنصار في سقيفتهم بتخطيط مسبق، وكان دافع القرشيين الذي دخلوا إلى السقيفة هو الكراهية بأن يستأثر الأنصار بالخلافة.

المؤاخذة الرابعة : وهو أنه كيف يجتمعون في سقيفة بني ساعدة لتعيين خليفة، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد عين خلفاء له من بعده، وهم أهل بيته ، وأحاديث النبي في وصاياه لأمته حول ذلك، كثيرة ومتواترة ، وفِي مقدمتها حديثا الغدير والثقلين، ثم إننا نسأل كيف يمكن لأصحاب السقيفة أن يتجاهلوا النص على إمامة علي، وهو الإمام الأول المفترض بيعته، كما أننا نطرح تساؤلا : هل يعقل للنبي أن يتجاهل موضوع تعيين خليفة من بعده ويترك ذلك للأمة، وهو صلوات الله عليه لم يترك صغيرة ولا كبيرة من القضايا التي تعنى بحياة الإنسان إلا وقد أوصى بها وبين حكمها ؟ وعليه لا بد وأن يكون هناك وصية للنبي حول خلفائه من بعده، وليست هي إلا النص على إمامة أهل البيت عليهم السلام ، والتي لم يدعيها أحد غيرهم.

المؤاخذة الخامسة : لم يكن من المناسب تصرف أصحاب السقيفة من استعجال طرح موضوع الخلافة قبل دفن النبي، حيث المناسبة تدعو إلى الحزن والإنشغال بمراسيم الحفاظ على توديع النبي، فإنشغالهم بالخلافة عن المناسبة يكشف أن ما حصل كان قد تم له الإعداد مسبقا، وأن هناك تنافسا قبليا على الخلافة، ولعل قريش كانت السباقة إلى ذلك، وما إقدام الأنصار على استعجال موضوع الخلافة إلا لوجود هواجس لديها، جعلتها تخشى من وصول قريش إلى الحكم، ويحمل مفاجآت لها لم تكن في الحسبان، من وصول من لا عهد لهم بالجهاد وبذل التضحيات، وخاصة الحزب السفياني الذي كان يسعى في الخفاء لوصوله إلى الحكم، وخاصة أنه من قاد مسيرة الشرك قبل فتح مكة لمحاربة النبي والإسلام، وخاصة أنهم كانوا من الطلقاء.

ثم إن هناك أمورا حصلت في إدارة الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب، كان لها دورأيضا في تنمية العصبية القبلية، وخاصة أنه تم في هذا العهد التمييز في العطاء بين المسلمين على أساس الانتماء القبلي لهم، ففضل السابقين على غيرهم، وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم، وفضل القرشيين كافة على الأنصار كافة، وفضل العرب على العجم، وفضل الصريح على غيره، هذا التمييز والتفضيل في العطاء فرض إحياء الروح القبلية من جديد، وخاصة أنه أصبح مطلبا للدولة لتنظيم التفاوت، والملاحظ أن هذا المبدأ أعطى لقريش ميزة على غيرها، مع أنه لا فضل لقريش على غيرها في الجهاد وتقديم التضحيات، سيما إذا قيست بما قدمه الأنصار، نعم بعض القرشيين يشاركون الأنصار في التضحيات وليس كل القرشيين، ولكن تفضيل كل القرشيين أمر يستوقفنا، وفِي العموم الإقدام على التفضيل في العطاء كان له الأثر السلبي، مع أنه في زمن النبي ساوى في العطاء وكذا في عهد أبي بكر فإنه ساوى أيضا في العطاء، ونسأل ما هي الأسباب التي دفعت عمر إلى جعل هذا التفضيل، هل كان بفعل ضغط العصبيات القرشية التي رأت نفسها، أن لها الفضل والميزة على باقي القبائل، لكن ورد في كتب التاريخ أن عمر وعد بالعودة عن هذا التفضيل واستبداله بالمساواة حيث أوجد شعورا عند القرشيين بالإمتياز والتفرد وصيرورة ذلك فتنة بين المسلمين.

وأيضا من الأمور التي ساعدت على إثارة العصبية بين المسلمين، هو طريقة الشورى التي اقترحها عمر بن الخطاب لانتخاب خليفة جديد من بعده مؤلفة من ستة أشخاص من قريش ، مستبعدا باقي القبائل من هذه الشورى سيما الأنصار، مع أنه قد تم الإتفاق معهم في سقيفة بني ساعدة، أن يكون للأنصار دور الوزراء إلى جانب الأمراء الذين هم من قريش، وقد كان كل شخص رشحه عمر للشورى، يشكل مشروعا بنفسه لأن يكون خليفة، والأشخاص الستة هم علي ابن ابي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف و سعد بن وقّاص ، ولعل الذي دفع إلى جعل الشورى في قريش، هو لكي لا تخرج الخلافة من قريش، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية هو أن الأكثرية من قريش لا تريد أن تذهب الخلافة لعلي بن أبي طالب، منعا لاجتماع الخلافة والنبوة في بني هاشم، بالإضافة إلى معرفة قريش بعلي أنه يرفض عصبيتها، وكان شديد الورع والرفض للتساهل في أمر الدين وتنفيذ الأحكام، وهذ لا يناسب قريش.

ونتج عن هذه الشورى في تركيبها لأن يكون عثمان بن عفان هو الخليفة الجديد، مما زاد من فرصة هيمنة الحزب الأموي على السلطة، وفعلا استطاع هذا الحزب التمهيد لمعاوية لمجيئه حاكما على الأمة، واستغل الأمويون مجيء عثمان خليفة فتسلطوا على مراكز الحكم والسلطة في الدولة، وبدأت الإستياء لدى المسلمين، من تمدد النفوذ الأموي حتى اصبح الحكم بعد مقتل الخليفة الثالث بيد الأمويين.

الثورة الحسينية في مواجهة العصبية القبلية

ذكرنا هذا التمهيد حتى نصل إلى النتيجة القائلة بأن أحداث الشورى، ساهمت في المجيء ببني أمية حكاما على الأمة، ومستبدين بأمرها، وخاصة مع مجيء معاوية مستفيدا من كل الصراعات التي حصلت بين قريش والأنصار ، واستبعاد الإمام علي، حتى استطاع الأمويون أن يصلوا إلى السلطة، وتبدأ معالم المشروع الأموي مع استبداد معاوية بالحكم والسلطة، ومتخذا من بلاد الشام مركزا لنفوذه وسلطانه، وخاصة أن هناك فتنا عصفت بالأمة بعد مقتل عثمان الذي كان عليا يخشاه، ويعمل على حفظ حياة عثمان من أي مؤامرة تؤدي إلى قتله، إلا أن الأمويين رفضوا سياسة الإمام علي الإصلاحية التي كان ينصح بها عثمان في استبدال الولاة الأمويين بغيرهم، ومن ناحية ثانية ثار الناس في الأقطار الإسلامية باستثناء الشام، والكل يطالب عثمان بتغيير ولاته الذين عينهم من الأمويين، ولكن عثمان وعدهم بالتغيير ولم يكن هذا التغيير سهلا، لان الولاة الأمويين لن يقبلوا بخلعهم وتغييرهم، واعتبروا الصراع هو صراع قبلي، إلى أن قتل عثمان وكان مقتله لصالح الأمويين وبالخصوص معاوية ، وأجمع الناس في المدينة على البيعة لعلي عليه السلام للنهوض باصلاح الدولة وتغيير الولاة، لكن معاوية رفض إصلاحات الامام علي وطالبه بتسليم قتلة عثمان ، بينما جاء مقتل عثمان في أجواء من الفوضى بين الثوار، لكن التأمل يقود إلى أن مقتل عثمان قد يقف وراءه مروان بن الحكم خوفا من استجابة عثمان للإمام علي وقيامه بالإصلاحات وتغيير الولاة الأمويين أو خوفا من تنازل عثمان عن الخلافة أمام ضغط الثوار.

فجاء علي عليه السلام واستلم السلطة، بعد مقتل الخليفة عثمان، وبدأت المواجهة بينه وبين الطبقة المستفيدة من الولاة الأمويين، وخاصة الطبقة الرافضة للإصلاح، وكانت حرب الجمل التي يقف وراءها الرافضون لسياسة الإمام علي الإصلاحية، إلى أن كانت معركة صفين مع معاوية الرافض للتنازل عن مركز السلطة في الشام بالإضافة إلى ارتكاب معاوية جرائم الترويع في الأقطار الإسلامية، لجعل الناس ينقادون له، وبعد ذلك كانت معركة النهران مع الخوراج الذين كانوا حزبا متطرفا إرهابيا، إلى أن استشهد الإمام علي بفعل مؤامرة يذكر التاريخ أنه يقف وراءها الخوراج ، إلى أن تمت البيعة للإمام الحسن وأراد الإمام أن يسير بسياسة أبيه الإصلاحية، لكن الأمة خذلته وكان هوى وجهاء الكوفة مع معاوية، ومعاوية كان قد اشترى ذممهم بالمال والإغراء بالسلطة، إلى أن توفي معاوية وكان قد عين قبل موته ابنه يزيد حاكما على الأمة، مع أن يزيد كان معروفا بفسقه وفجوره، وهنا خرج الإمام الحسين رافضا لتعيين يزيد خليفة من بعد معاوية.

كما أن الإمام الحسين لم يخرج على معاوية في حياته، التزاما بإتفاقية الصلح التي أجراها الإمام الحسن مع معاوية، والتي تتضمن بندا أن تكون الخلافة للإمام الحسن بعد وفاة معاوية إن كان حيّا، وإن كان ميتا فهي لآخيه الإمام الحسين، ولا شك أن بني أمية كانوا يخشون الإمام الحسين، لأن معاوية كان ملزما بتسليم مقاليد السلطة للإمام الحسين، لكن الإمام الحسين إن جاء إلى السلطة فيتلزم منهج أبيه وجده في الإصلاح، وهذا مالا يناسب بني أمية، لأن الإمام اعتبر بأن النظام الأموي نظام قبلي فاسد، ومن هنا كان صراع الإمام الحسين مع السلطة القبلية، والتي تتمثل بالعصبية القبلية، فبنو أمية كانوا قد استفادوا من عودة القبلية الى المسلمين، و خاصة بعد وفاة الرسول الأكرم، وبدأت مع سقيفة بني ساعدة، فالإصلاح الحسيني يقوم على خلع الولاة الأمويين، والسير على منهج أبيه بأن المنحرف والفاسد لا يصلح لأن يكون حاكما.

هذا بالإضافة إلى أن الأمويين إسلامهم مشكوك به، لا سيما إسلام معاوية ويزيد والمروانيبن، ويزيد نفسه كان قد أفصح في شعر له عن فسقه وكفره، وقد نقل المؤرخون كابن الأثير في كتابه البداية والنهايه، وغيره من المؤرخين هذا الشعر، قاله بعد قتله للإمام الحسين عليه السلام يفصح في هذا الشعر، وأن الصراع بينه وبين الإمام إنما هو إنتقام من الرسول الأكرم محمد على قتله لأسياد قريش في بدر، وأنكر يزيد في هذا الشعر نبوة محمد، وأن هذه النبوة ابتدعها بنو هاشم ذريعة للوصول إلى السلطة والملك على العرب وهذا هو الشعر:

لــيت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلـــــوا واستهلوا فرحـاً ثـــــــــم قالوا: يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم وعــــــــــدلناه ببدر فاعتــــــدل

لــــــعبت هاشم بالملك فـــلا خــــــــبر جاء ولا وحــــي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم من بني أحمد ما كان فعــــــــل

وتخبرنا هذه الأبيات عن عدم إسلام يزيد وأنه لا يُؤْمِن بنبوة محمد، ومع ذلك بايعه من بايعه على أن يكون خليفة للنبي على الأمة، وإن دلت هذه البيعة فإنها تدل على مدى الإنحراف الكبير الذي حصل في الأمة وكيف أن الإسلام أصبح في خطر، ولو لم تكن هناك ثورة الحسينية، التي دفعت الأمة إلى ثورات أدت إلى استئصاله ، لكان مصير الإسلام في خطر، فيزيد أعلنها بأن قتله للإمام الحسين إنما كان انتقاما من جده رسول الله .

ونستوحي مما تقدم كيف أن عودة القبلية إلى المسلمين في سقيفة بني ساعدة، أسست ومهدت لمجيء نظام منحرف وفاسد يتآمر ويعمل على استئصال الإسلام ويسعى لإعادة المسلمين إلى ما كانوا عليه في العصر الجاهلي، هذا بالإضافة إلى التعاون الذي كان قائما بين اليهود وبين بني أمة على محاربة الإسلام، منذ ما قبل فتح مكة واستمر إلى زمن انتهاء الحكم الأموي ، فقد كان الأمويون يخططون مع اليهود معا لمواجهة الإسلام.

فثورة الإمام الحسين عليه السلام لا يمكن معرفة عظمتها، إلا بمعرفة حقيقة وخفايا النظام الأموي، ومع ذلك نجد هناك من يدافع عن يزيد ومعاوية ويعتبر أن حكمهما كان حكما إسلاميا، وأن الخلاف بينهما وبين علي والحسن والحسين إنما مرجعه إلى الإختلاف في الإجتهاد بين وجهات النظر، وأن الإمام الحسين شق هذه الأمة بخروجه على إمام عصره، وحاول البعض أن يعتبر أن الصراع بين يزيد والإمام الحسين إنما هو امتداد للصراع بين بني أمية وبني هاشم على السلطة والزعامة قبل الإسلام، وامتد هذا الصراع إلى ما بعد الإسلام فكان الصراع على الخلافة، وأن هذه الخلافة كانت خلافة وراثية تنتقل من الآباء إلى الأبناء، وهذا خلاف الواقع ولا صحة لهذه المقارنة.

الإمامة لدى أهل البيت عليهم السلام نص إلهي وليس وراثة قبلية

إن من القواعد الأساسية في العقيدة أن الله تعالى له الحجة البالغة على عباده، فلم يترك تعالى عباده دون هدايتهم إلى دينه الإسلام، فأرسل الأنبياء وأنزل الكتب لهداية الناس إلى دينه ورسالته، وأيضا من حجج الله تعالى على العباد الأوصياء الذين هم حفظة الرسالات للأنبياء، والقيام بدورهم في هداية العباد وتعليمهم أصول دينهم وقيادتهم إلى بناء المجتمع الصالح الذي يحقق الهدف من خلق الإنسان على الأرض، وأوصياء الأنبياء ينوبون عن الأنبياء وخاصة أنبياء أولي العزم، كما أن الأوصياء قد يكونون أنبياء وقد لا يكونون أنبياء، إلا أن الأوصياء من غير الأنبياء لا يوحى إليهم بل يكونون محدثون من قبل الملائكة بشرائع الأنبياء الذين ينوبون عنهم، كما يرثون علوم الأنبياء، وهؤلاء الأوصياء عانوا مع أمم أنبياءهم كما عانى الأنبياء معهم حيث التشكيك بهم وبدورهم، وأذيتهم واتهامهم بجملة من الإتهامات الباطلة، والعدوان عليهم.

والله تعالى اتخذ لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله أوصياء ، ينوبون عنه في حفظ الرسالة وهداية الناس إليها، وهم أهل بيته الأطهار علي وولداه الحسن والحسين وتسع أئمة من ذرية الإمام الحسين عليهم السلام جميعا، ونزلت آيات بشأن إمامتهم ، كما وردت الأحاديث الصحيحة والمتواترة في حقهم التي تدل على إمامتهم ووصايتهم، وتعرضوا لجملة من التشكيكات بإمامتهم كما تعرض النبي إلى التشكيك بنبوته، والإمام الحسين عليه السلام هو أحد أوصياء النبي الذين حفظوا رسالة النبي، ومن هنا فإن ثورة الإمام الحسين هي ثورة وصي النبي محمد الذي قام بدوره في حفظ رسالة خاتم الأنبياء، وواجه الإمام الحسين العصبية القبلية التي واجهها النبي الأعظم ، وهي العصبية القبلية الأموية، التي واجهت النبي قبل فتح مكة وعادت من جديد مع معاوية بن أبي سفيان لتواجه الإسلام من الداخل وباسم الإسلام، لكن الإمام الحسين بثورته المجيد استطاع أن يفضح الزيف الأموي، ويكشف عن حقيقة الأهداف الأموية والتي هي الإبداع في الدين، وما نريد أن نشير إليه هو أن بني أمية أرادوا أن يتخلصوا من الإمام الحسين، لأنهم يخشون من مشروعه الاسلامي الرامي إلى إسقاط السلطة القبلية التي استبدت بالمسلمين فاعتبرت أن أموالهم وحياتهم هي ملك لهم.

ونعود إلى الحديث عن التحديات التي واجهها أهل البيت مع الأنظمة القبلية التي حكمت الأمة لا سيما النظام الأموي والنظام العباسي، ومن سار على نهجهما في اعتماد مبدأ القبيلة في حاكمية المسلمين، أو اعتماد مبدأ التوريث في الحكم والسلطة، فمن هذه التحديات نشر الشبهات والمغالطات حول إمامة أهل البيت عليهم السلام، ومن هذه المغالطات اعتبار أن الصراع بين أهل البيت والنظام الأموي هو صراع قبلي امتداده إلى الصراع ما قبل الاسلام إلى الصراع الكائن بين بني هاشم وبني أمية، وهذه المغالطة تعتمد على أن الخلافة لدى أهل البيت قائمة على مبدأ التوريث والقرابة كما هو لدى الأمويين، وهذه مغالطة لا صحة لها، فإمامة أهل البيت ليست وراثة قبلية، بل هي تعتمد على الجعل الإلهي لمن يكون أهلا لحمل الإمامة .

نعم صادف أن أوصياء النبي الذين اختارهم الله هم من ذرية علي ابن ابي طالب، تماما كما حصل مع نبي الله إبراهيم عليه السلام الذي صادف أن كانت النبوة والوصاية في ذريته وأولاده، فكان ولداه إسماعيل وإسحاق نبيين ووصين له، وكذا حفيده يعقوب بن إسحاق، ومن ثم يوسف ابن يعقوب، ومن ثم كان أنبياء بني إسرائيل الذين هم من ذرية إبراهيم لجهة ابنه إسحاق ، وكذا الرسول الأكرم محمد هو من ذرية ابراهيم صلوات الله عليهما، حتى أن ابراهيم سأل الله تعالى أن يجعل في ذريته الإمامة، بعد أن جعله إماما، وتحدث الله تعالى عن ذلك في سورة البقرة، فقال تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) )، أوضحت هذه الآية الشريفة جملة من الحقائق التي تتعلق بموضوع الإمامة، ونشير إلى هذه الحقائق على النحو التالي :

الحقيقة الأولى : هي أن الإمامة الإلهية عبارة عن الشخص الذي يختاره الله والذي يشكل في علمه وسلوكه القدوة الحسنة التي يأتم به الناس في الهداية إلى دين الله ، وهنا نلفت النظر بأن الإمامة ليست مجرد حاكمية وسلطة مجردة عن العلم بدين الله وشرعه، ومن هنا كانت خلافة أهل البيت للنبي هي خلافة في العلم والسلطة، وليست خلافة في السلطة من دون العلم، لأن الهدف منها هي هداية الناس، وكيف يهدي الناس من لا يكون عارف برسالة النبي والكتاب الذي أنزله الله عليه، لذا لابد من التمييز بين الخلافة بالمفهوم الأموي والتي هي عبارة عن السلطة السياسية غير الدينية، و بين الخلافة في مفهوم التشيع هي عبارة عن الخلافة للنبي في علمه وقيادته العامة دون الفصل بين الدين والدنيا، والله تعالى جعل إبراهيم إماما يقود الناس إلى دين الله في شؤون الدين والدنيا.

الحقيقة الثانية : وهو أن الإمام الذي يختاره الله تعالى لا بد وأن يكون قد نجح في الإبتلاءات الربانية له، وهذا يدل على أن الإمام لا بد وأن يكون مستقيما في طاعته لله، لا يرتكب المعاصي ولا ينحرف عن دين الله، ولأن إبراهيم عليه السلام كان كذلك فجعله الله إماما، وإلى ذلك أشار تعالى في قوله تعالى المتقدم : ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) فالابتلاء معناه الإختبار ، كما أن المقصود بالكلمات هي نفس الإختبارات التي تعرض الله لها نبي الله إبراهيم، والمقصود بأتمهن أن إبراهيم عليه السلام أتم هذه الإختبارات بنجاح، ولم يسقط في أي واحد منها، وهذا يدل على أن المعصوم ينجح في كل الإختبارات الإلهية التي تعرض لها، وأي فشل في أي امتحان فهذا يعني عدم أهليته لحمل مشروع الإمامة، وعليه فأي شخص عاش انحرافا في حياته حتى ولو كان صغيرا فهذا لا يؤهله لحمل مشروع الإمامة، ومن هنا اشترطت العصمة في الإمام الذي يتصدى لمهام الإمامة، فالله لا يهب الإمامة إلا لمن عصمه الله تعالى حتى يكون حجة الله في أرضه على البشر.

الحقيقة الثالثة : الإمامة أعم من النبوة، فالإمام قد يكون نبيا وقد لا يكون نبيا، فالنبوة هي تلقي الوحي و النبي هو الذي ينبىء عن الله تعالى من دون واسطة بشر سواء، بينما الإمام هو الذي يقود المجتمع إلى طاعة الله والالتزام بدينه، ومن هنا كان آصف بن برخيا وصيا لنبي الله سليمان ولم يكن نبيا، وكذا أهل البيت عليهم السلام كانوا أئمة ولم يكونوا أنبياء، إلا أن الأئمة محدثون من قبل الملائكة ، وهذا الأمر ليس بمستنكر، فالملائكة حدثت مريم ابنة عمران عليها السلام، فكيف بمن يكون حجة الله، ويلزم أن تكون حجته كاملة، فلا يغيب عنه شيء من دين الله، فالإمام مصادر علومه متعددة أبرزها ما ورثه عن النبي من علوم وما ألهمه الله به عبر تحديث الملائكة له، كما أن الإمام بحاجة دائما إلى تسديد الله، حتى تكون الحجة البالغة لله تعالى.

الحقيقة الرابعة : الإمامة الإلهية لا بد وأن تكون شاملة في قيادتها للمجتمع البشري في كافة القضايا الدينية والدنيوية، وهذا يقتضي أن يكون الإمام ملما بمعرفة الأحكام كاملا وملما بكيفية تطبيقها، ولا يخفى عليه شيء من دين الله ولا من كتابه وإلا فلا يكون إماما إلهيا ، فالإمامة لا تكون ناقصة ودائما تكون كاملة، وعليه من يجهل شيئا من دين الله فلا يكون إماما للبشر ومن هنا كان الأنبياء والأوصياء عارفين بشرع الله معرفة كاملة، لا يخفى عليهم شيئا وإلا لو ترددوا في معرفة حكم شرعي، لكشف ذلك عن عدم صحة إمامتهم، وليس عن بطلان إمامتهم لأن الإمامة إذا جعلها الله فلا يمكن تبطل، لأن الله يسددها، ولو بطلت لكشف ذلك عن عدم معرفة الله بصلاح الإمام لمهام الإمامة وهذا لا يصح على الله تعالى، بالإضافة أنه لو أمكن بطلان الإمامة بعد ثبوتها لأدى ذلك إلى عدم الوثوق بها من قبل الناس، فلا تكون الإمامة مصداقا لمفهوم الحجة البالغة لله تعالى.

إقرأ أيضاً: تجار المجالس الحسينية في لبنان

الحقيقة الخامسة : وهي أن الإمامة يتم جعلها من قبل الله تعالى، ولا يتم تعيينها أو انتخابها من قبل البشر، لذا قال تعالى في الآية المتقدمة : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) ، فالإمامة جعل من الله لأحد الأشخاص من البشر، لذا الإمامة لا تنتخب من قبل الناس، لأن الله أخبر بحججه الذين يكون قولهم فصلا في التعبير عن دين الله، والسر في كون الإمامة جعلا إلهيا لأن الإمامة لا بد وأن تكون معصومة في نجاحها في الإختبارات الإلهية لها، ولا بد وأن تتم ذلك، ولا أحد يعلم بإتمام الإمام للإمتحان الرباني إلا الله تعالى، وخاصة أن الإمتحانات الربانية للإمامة منها ماهو خفي ومنها ما هو ظاهر، فالناس يعلمون ظاهر الإمام لكن لا يعلمون سر الإمام وباطنه، هل هو في غاية النقاء والرضا بقضاء الله تعالى أما لا، وهذا أحد الفروقات بين الخلافة الأموية والخلافة لدى أهل البيت، فالخلافة الأموية جعلا بشريا أساسه التوريث النسبي، بينما الخلافة لأهل البيت هي جعل إلهي مباشر يقوم على المشيئة الإلهية، حتى أن أهل البيت لا خيار لهم فيها، وهم عليهم السلام رضوا بقضاء الله وقدره.

الحقيقة الخامسة : وهي أنه يشترط في الإمامة العصمة، فغير المعصوم لايمكن أن يكون إماما، والنص القرآني المتقدم يدل بوضوح على هذا الشرط، حيث سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل الإمامة في ذريته، فقبل الله تعالى دعاءه لكن بشرط أن الظالم من ذريته لا ينال منصب الإمامة، قال تعالى : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، والمقصود بالعهد هنا هو جعل الله الإمامة فيمن نجح في الإختبارات الإلهية، وأدى التكاليف دون نقص فيها، وأتمها كما أرادها الله تعالى، ونستوحي من المفهوم المتقدم للجعل الإلهي أنه خصه تعالى فيمن عصم نفسه عن الذنوب والمعاصي، وهؤلاء لا يعلمهم إلا الله تعالى واتخذهم تعالى حججا له على العباد والنَّاس، ثم إن المقصود بالعهد في قوله تعالى : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) هو عهد الإمامة ، كما أن المقصود بالظلم هنا في هذا الشطر من الآية، هو كل معصية يرتكبها الإنسان، وخاصة الشرك، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) ) لقمان.

فالله تعالى في هذه الآية أطلق الظلم على الشرك بالله، سواء كان الشرك على مستوى الذات، بأن يجعل مع الله إلها أخر، أم شركا على مستوى الصفات بأن يجعل شريكا لله في صفاته، أو في أفعاله، أو كان الشرك على مستوى الطاعة لله، وعليه فالمشرك ظالم لله تعالى، لأن اعتدى على حق من حقوقه، والله تعالى أطلق الظلم في الآية دون تقييد حتى يشمل الظلم كل مصاديقه، فيعم كل المعاصي صغيرها وكبيرها ماضيها وحاضرها، وعليه فلو عصى الإنسان ربه فترة من الزمن ومن ثم تاب فإنه لا ينال عهد الإمامة، لأنه عهد مختص بمن لم يعص الله مطلقا في الأزمنة الثلاث، ومن هنا نستدل على وجوب عصمة الأنبياء والأوصياء الذين عهد الله إليهم بالإمامة، لذا اتخذ الله أهل البيت أئمة لأنهم لم يعصوا الله، فعهد إليهم بالإمامة .

الحقيقة السادسة : وهو أنه لا مانع من اجتماع الإمامة في الذرية والأولاد، بشرط عدم صدور الظلم منهم بكافة أشكاله، فنبي الله إبراهيم سأل الله تعالى أن يجعل في ذريته الإمامة، فاستجاب الله دعائه بأنه سيجعلها في ذريته غير الظالمين، أما الظالمون فلا يستحقون حمل منصب الإمامة، قال تعالى في الآية المتقدمة : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، فقول إبراهيم : ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) هو سؤال لله تعالى يتضمن الدعاء، بأن يجعل الإمامة في ذريته، لأن منصب الإمامة منصب كبير وعظيم، وصاحبه على درجة كبيرة عند الله، والله استجاب دعاء إبراهيم عليه السلام، وجعل بعض ذريته أئمة وهم الأنبياء القادة من ذريته.

إقرأ أيضاً: متى تخرج الثورة الحسينيّة من عنق الزجاجة المذهبيّ؟

ونحن كنّا قد ذكرنا أن الإمامة أعم من النبوة تشمل الأنبياء وغيرهم، وفِي ذلك رد على الذين قالوا بأن إمامة أهل البيت وراثة من الآباء إلى الأبناء، فهذا القول غير صحيح إطلاقا، لأن الوراثة جعل بشري، بينما إمامة أهل البيت عليهم السلام هي جعل إلهي لهم، ولا علاقة لها بالوراثة، فالله كما جعل عليا بن أبي طالب أماما جعل ابنه الإمام الحسن إماما وجعل من بعده أخاه الحسين إماما، وهكذا على النحو التدريج باقي الأئمة من ذرية الإمام الحسين، لذا فلا وجه للمقارنة والتشبيه بين خلافة الأمويين القائمة على الوراثة وخلافة أهل البيت عليهم السلام، القائمة على الجعل الإلهي، لذا من هنا كانت إمامة أهل البيت عليهم السلام منصب رباني.

السابق
الحرية الفكرية والسياسية أقدس من الوطن
التالي
جعجع: لولا دعمنا لما كان العماد عون في قصر بعبدا بل كان النائب سليمان فرنجية