الصحافي الكاذب الذي كان صادقاً

الصحافي الروسي أركادي بابتشنكو، رجل محظوظ. استطاع أن يسجل في دفتر يوميات الكذب الرائج، هذه الأيام، ضربةً موفّقة ضد الصدق. هو ليس رجل سياسة، أو صاحب شركة عملاقة.. ليكون كذبه خبزه اليومي، المعلوم، والمدفوع بمائة حافز وحافز.

هو ما زال شاباً، عنده إحدى وأربعون سنة، لكن حياته تضجّ بالإشارات الصادقة: كان بدايةً جندياً في الجيش الروسي في أثناء الحرب الروسية على الشيشان، خلال تسعينيات القرن الماضي. ثم أصبح مراسلاً حربياً في صحيفة نوفيا غازيتا الروسية، وألّف كتاباً عن الحرب الشيشانية عنوانه “لون الحرب”. المنعطف في حياته كان الحرب الروسية ضد استقلال أوكرانيا، عام 2014، واجتياح الجيش الروسي شبه جزيرة القرم، والغارات الجوية الروسية ضد السوريين، بعد دخول روسيا الحرب رسمياً إلى جانب بشار الأسد عام 2015. وفي بداية العام 2017، بعدما تصاعد نشاطه على الشبكة والشاشات الروسية، تلقّى تهديدات بالقتل؛ فهرب من روسيا، وجالَ بين تشيكيا وإسرائيل، ليستقر أخيرا في كييف، عاصمة أوكرانيا.

إقرأ ايضا: دلال البزري تفْتَحُ «دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية»…

هذه قصته السابقة التي تشبه، إلى حدّ بعيد، قصة الكتاب والصحافيين الروس المعارضين حكم بلادهم، ورئيسها فلاديمير بوتين. أما القصة اللاحقة، فهي تختلف، وتثير الدهشة: في نهاية شهر أيار/مايو الفائت، توزَّع صورة على وكالات الإعلام، وفيها نرى بابتشنكو ممدداً على الأرض، يرتدي قميصاً مثقوباً بثلاث رصاصات، ودماءً تسيل من بطنه. وتردف الصورة بالخبر الأليم: أن أركادي بابتشنكو تعرّض لثلاث رصاصات في ظهره، أنهت حياته. والتهمة طبعاً، النظام الروسي الذي ألِف ارتكاب جرائم مماثلة بحق مثقفين معارضين، مثل بوريس نمتسوف وآنا بوليتكوسكايا وبافيل شريمت.. ورئيس الوزراء الأوكراني، فولودي هرايسمن، يصرّح، غامزاً في القناة الروسية: “أنا مقتنع بأن الآلة التوتاليتارية لم يكن ممكناً أن تسامح أركادي بابتشنكو على نزاهته”. العواطف تتأجج ضد الروس في لحظة إعلان النبأ. والأوروبيون، الخائفون من التمدّد الروسي، يرفعون نبرتهم، ويطالبون بتحقيقٍ في الجريمة، ويعودون ويلحّون، بأن يكون “ذا صدقية”. ثم، بعد أربع وعشرين ساعة على إعلان نبأ “كذبة “مخابراتية” تشبه عدوّتها، نظيراتها المصنوعة من مخابراتٍ أعرق وأقدم منها” الاغتيال هذا، المفاجأة المدوّية: أركادي بابتشنكو، ينبعث من جديد، يظهر في مؤتمر صحافي، وإلى جانبه أحد كبار الرسميين الأوكرانيين. ويعلن أن نبأ الاغتيال كان كاذباً، وكان القصد منه إفشال محاولة اغتياله من أجهزة المخابرات الروسية؛ وأن المسرحية – الكذبة سمحت باعتقال الرجل المكلف بتنفيذها، وهو وثيق الصلة بالمخابرات الروسية. إنه “السيد ج”، وقد نال من السلطات الروسية أربعين ألف دولار مقابل “خدماته” هذه. وكان على لائحته، بعد بابتشنكو، أسماء سبعة وأربعين معارضاً روسياً مرشحاً للاغتيال. ولإعطاء مزيد من الصدقية على تكذيب كذبته، يوضح أن الدماء التي ظهرت في صورة الاغتيال المفبْركة تعود إلى خنزير.

هل كانت كذبة “بيضاء” كما يصفها المدافعون عنها؟ أي كذبةٍ لها مبرّراتها، “الأمنية” خصوصا؟ ربما لهذه الأخيرة من الوزن، وإن كنا لا نعرف تماماً، وربما لا يمكننا أن نعرف مآل “السيد ج”، الذي كشفت كذبة الاغتيال عن تخطيطه الفاشل، الصادق، لاغتيال أركادي بابتشنكو. وإذا صحّ المبرِّر الأمني، فإن المبرِّر الأخلاقي السياسي لا يستوي أبداً: فهذه كذبةٌ لا يمكن تكرارها. لا يمكن بعد انبعاث أركادي بابتشنكو من بين الأموات أن نصدّق أن محاولة كهذه جرت، ونجحت، فقضي على المعارض الروسي المناهض لسياسة بلاده. إن الثقة التي هي أساس التعامل غير الكاذب ضاعت بعد هذه المسرحية. لم يَعُد ممكناً تصديق أركادي بابتشنكو. أحبطَ محاولة اغتياله ربما، لكنه أحبط مصداقيته بالتأكيد، فطالما أننا سوف نتذكّر انبعاثه من بين دماء الخنزير، لن نصدّقه. هذا إذا افترضنا أن “التخطيط لاغتياله” كان حقيقياً، ولا يخفي وراءه حقائق أعمق، أكثر سريةً، أكثر خطورةً. فمن الآن، سيخيم الشك والغيظ؛ فالضحك على ذقون، عندما ينكشف، إذا كان الضاحك صاحب عزوةٍ قليلة، أو كان لاعبا صغيراً أو متوسطاً… فسيكون السؤال وراءه دائما: الدليل، المصدر، المرجع، التفاصيل.. مطلوبين في كل خطوة تصدر عنه، أو مبادرة، أو كلمة.

بهذه الكذبة “المخابراتية” التي تشبه عدوّتها، نظيراتها المصنوعة من مخابراتٍ أعرق وأقدم منها، يخسر المعارضون الروس مصداقيةً لطالما نهضوا على أكتافها. وبهذا، يصبح من الطبيعي أيضا أن يكون هناك رابح كبير من هذه الكذبة: فلاديمير بوتين الذي تنفّست آلته الإعلامية الصعداء، وأخذت تحمل على “كل أكاذيب” المعارضة، وعلى الاتهامات “الجاهزة” التي ساقها الإعلام الغربي ضد روسيا: بدءاً بتهمة إسقاط الطائرة الماليزية فوق أراضي الدونباس التي تحتلها المليشيات الروسية، مروراً باغتيال ألكسندر ليتفننكو، أو محاولة تسميم العميل المزدوج سكريبال مع ابنته في لندن، انتهاء بجرائمه “الصناعية” في سورية، بذريعة “محاربة الإرهاب”.. كلها وقف بعنف ضد كل محاولات التحقيق فيها، وردّ عليها بمزيد من الأكاذيب. ولكن هذه المرة، بعد مسرحية أركادي بابتشنكو، سوف يصرخ بثقةٍ عاليةٍ في وجه كل مشكِّك، وجملة واحدة على لسانه: “تذكّر أركادي بابتشنكو!!”. باشرت الآلة الإعلامية الروسية هذه المهمة بسرعة، وحماسة، وإخلاص. وسيل من الكلمات التي لا تنتهي حول “صدق” النظام الذي لم يكذب يوماً، ونفاق المعارضين، وافتراءاتهم وأباطيلهم. “أحبط بابتشنكو محاولة اغتياله ربما، لكنه أحبط مصداقيته بالتأكيد، فطالما أننا سوف نتذكّر انبعاثه من بين دماء الخنزير، لن نصدّقه”.

إقرأ أيضا: المقاطعة والغضب الخالد

هكذا تُرسي مسرحية أركادي بابتشنكو معادلة عبثية: بوتين المؤامراتي الذي نشأ في عتْمة الغرف المغلقة للمخابرات الروسية (كي. جي. بي)، ويكره غورباتشوف، ويكره شعار “الغلانستوس” (الشفافية)، أي الصدق؛ بوتين الذي يعيد تركيب تاريخ روسيا والاتحاد السوفييتي على قياس مشروعه السلطاني، وينكر جرائمه بحق شعوب أخرى، وينفخ شعبه بكبرياء الأباطرة، ويرفض أي تحقيق مستقل في جرائمه السورية الأوكرانية، وقبل ذلك الشيشانية؛ بوتين الذي حوّل الكذب إلى استراتيجية دولية، والذي ينجذب إلى كاذب آخر، مهووسٍ بالكذب، شريكه في ملكية السلاح النووي، دونالد ترامب؛ بوتين الذي ينعم بمنهج متكامل متناسقٍ في الكذب، ينفرد بهيكله وأضلعه وزواياه. بوتين هذا يشهد اليوم ربما أسعد أيام عهده: لقد وقع الخصم في إغراء تقليده، أي صناعة كذبةٍ من الطراز المخابراتي المعهود، وهو الآن بصدد ابتلاع هذا الخصم بسهولة؛ لأنه أقوى منه، يملك قرارا بحياة الملايين وموتهم. ولأن كذبه مدروس، بارد، متماسك، مثابر، قياساً إلى كذبة خصمه المعارض، الهزيلة، الطارئة، الدخيلة، فسوف يتمتع بحياةٍ طويلة؛ فيما بضاعة هذا الخصم ستبور، لأنها مضروبة، لا تعرف، بعد حين، أو ربما لن تعرف، أين الصدق فيها من الكذب، فالصدق، في النهاية، ليس فضيلة أخلاقية فحسب، إنما ملَكَة ذهنية أيضاً.

السابق
نتنياهو يهدّد بشار الأسد!
التالي
من هي القديسة المصرية «كاترين» التي سميّ أقدم دير مصري في العالم على اسمها!