حاجة لبنان إلى وهم الديمقراطية

يجري لبنان في غضون أسابيع قليلة انتخاباته النيابية، والتي كان من المفترض أن تعقد عام ٢٠١٤، وتأخّرت لتعذّر إقرار قانون انتخابي جديد، ما استلزم تمديد مجلس النواب لنفسه مرتين. وفي منطقة غالباً ما تكون نتائج الانتخابات النيابية فيها محسومة مسبقاً، فإن الانتخابات اللبنانية، على مدى تاريخها، قد جاءت أحياناً بمفاجآت بدّلت المعادلات، كما شهدت زوال تحالفات كان من المفترض أن تكون ثابتة وحقّقت الفوز لمن لم يكن فوزهم محسوباً. أي أن لبنان يحتفظ بشكل ديمقراطي، في ممارسته الانتخابية على الأقل. وفي حين أن إطلاق صفة الديمقراطية على هذه الجمهورية والتي تشارف الذكرى المئوية لتأسيسها (حين اختطّت فرنسا دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ من حصتها من الدولة العثمانية المنهارة)، للأسف هو فعل واهم، فإنه وهم تتوجب المحافظة عليه.

ابتداءاً، لا سبيل للتوفيق في لبنان بين الديمقراطية الصادقة وغياب شرطها الأول، أي السيادة الوطنية. فالإشكالية متحققة بشأن سيادة لبنان، بل إن لبنان يرزح تحت احتلال إيراني يكاد أن يكون علنياً. هي صيغة مبتكرة للاحتلال دون شك، لا حاجة معها لأن يملأ البلاد جند الجمهورية الإسلامية الناطقين بالفارسية، بل ما جرى على مدى العقود الأربعة الماضية هو الاستفادة من الأوضاع الطارئة لتحويل لبنان إلى مقاطعة إيرانية، على درجة من الحكم الذاتي بما يتوافق مع مصلحة طهران. فالحكومة اللبنانية تقرّ رسمياً، من خلال معادلة «الشعب والجيش والمقاومة»، بوجود قوتين مسلحتين على أراضيها، الأولى هي «الجيش» وفق المفاهيم المتعارف عليها دولياً، إذ الجيش يخضع لقرار السلطة السياسية الوطنية وهو مساءل منها ومسؤول أمامها. أما القوة المسلحة الثانية، تحت مسمّى «المقاومة»، أي «حزب الله» بصيغة لفظية تعمّي صفته الفئوية، فهي متواجدة اسمياً للتصدي للاحتلال الإسرائيلي، هذا الفصل القاتم من تاريخ البلاد والذي انتهى في أيار عام ٢٠٠٠. و «المقاومة» تتفوق على «الجيش» من حيث التجانس والقدرات، ولكنها لا تخضع للمساءلة من جانب أية سلطة لبنانية، بل تدين بالولاء الكامل والعلني للولي الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وفي حين أن آخر مواجهة مع إسرائيل تعود إلى العام ٢٠٠٦، فإن «المقاومة» قد استعملت العنف القاهر والقسر والإكراه والتهديد لفرض إرادتها على الساحة السياسية الداخلية في لبنان، فيما كرّرت الإعلان الحازم والحاسم بأن الاعتراض على أي نشاط خارجي تقدم عليه، في سوريا أو العراق أو اليمن أو غيرها، بناءاً على توجيهات مرجعيتها الإيرانية، ليس من صلاحيات أي طرف لبناني. هي إذن صيغة على قدر من التمويه لاحتلال متحقق، ما يسمح لحزب الله وإيران بتجنب العواقب الدولية الصارمة. إلا أن قيادات إيرانية، لأغراضها الداخلية، لم تتردد في المجاهرة بسيطرتها على لبنان غالباً في إطار العودة المزعومة لإيران إلى موقعها في الهيمنة على المنطقة. ويبرز في هذا السياق تصريح ليحيى رحيم صفوي، القيادي في البحرية الإيرانية ومستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، أدلى به في أيار ٢٠١٤، إذ أبدى اعتزازه أن الحدود الإيرانية لم تعد تتوقف عند العراق، بل أصبحت تبلغ شواطئ البحر الأبيض المتوسط، لاحظاً أن هذا المدى يتحقق للمرة الثالثة. يذكر هنا أن المرتين السابقتين كانتا في زمن الأخمنيين في القرن الثامن قبل الميلاد، والساسانيين في القرن السابع بعده. لدى صفوي إذن قراءة ذات عمق تاريخي دون شك، ولكن لا هي إسلامية، ولا هي مرتبطة بالمواقف المعادية للصهيونية، بل هي بوضوح، رغم الاختصار في الكلام، قومية وتوسعية.

أما الصيغة الرسمية المفروضة على اللبنانيين، فتقول أن بلادهم هي اليوم جزء من «محور المقاومة» والذي تقوده إيران والهادف في نهاية المطاف إلى القضاء على إسرائيل ومنع الولايات المتحدة من تحقيق مآربها في الاستيلاء على ثروات المنطقة. وبناءاً على هذه الأهداف «النبيلة»، يتوجب على اللبنانيين إنكار البيّن من الأدلّة التي تكشف مسؤولية حزب الله عن سلسلة طويلة من الاغتيالات السياسية، والتي نجحت باعتراض تقدم لبنان باتجاه حِكامة ذاتية فعلية، كما يتوجب عليهم الالتزام بالعداء الدائم والصارم لإسرائيل. ولا يتوقف الاختراق الإيراني للبنان على ما لدى طهران من حقوق ملكية إزاء حزب الله، بل يمكن استشفاف بلوغ للنفوذ، من خلال وسطاء على درجات متباينة من الارتباط، إلى عمق التوازن الطائفي الدقيق للجيش اللبناني نفسه. أي أن القوات المسلحة الوطنية اللبنانية ليست بموقع التصدي للاحتلال الإيراني، بل هي في أكثر من موقع مقومات مكتسبة.

وما كان التسرب الإيراني إلى لبنان ممكناً لولا الفجوات التي تقدمها الهوية اللبنانية غير المكتملة. فلبنان، كما العديد من دول المنطقة، يعاني من غلبة الهويات الفئوية على هويته الوطنية الجامعة. إلا أن الطائفية في لبنان، فيما هي موضع إدانة واستنكار في الخطاب السياسي المهذّب، تبقى الأساس الراسخ للممارسة السياسية والهوية الذاتية. وفي التركيبة اللبنانية، في مكان ما بين العقد الاجتماعي الذي يؤسس علاقة المواطن بالدولة، وبين الدستور الذي يرسم معالم النظام السياسي المتّبع، يقع «الميثاق الوطني»، وهو الخطوط العريضة لتوافقات بين الزعماء يقرّ الطوائف ككيانات معنوية ذات سيادة ذاتية، وذلك دون اعتبار للإرادة الفردية للمواطنين إذ يعاد تصنيفهم ضمن هذه الطوائف وفق انتماءاتهم الدينية المفترضة. والخلاف، ضمن النظام السياسي المتبع في لبنان متاح في الشؤون الفرعية والهامشية، إلا أن أي قرار مصنّف «سيادياً» لا يمكن تمريره ما لم تكن كافة الطوائف الرئيسية ممثّلة في فعل اتخاذه. فحين يكون ضمن طائفة ما قوى سياسية متنافسة، يمكن استيفاء الشرط «الميثاقي» من خلال موافقة إحدى هذه القوى على القرار «السيادي». غير أن الطائفة الشيعية في لبنان قد فقدت التعددية التي كانت من سماتها نتيجة الإمساك الإيراني بها، فتمثيلها السياسي يكاد أن يكون اليوم حكراً على حزب الله، ومعه حركة أمل الدائرة في فلكه. بوسع إيران بالتالي منع أي قرار لا يروق لها من خلال امتناع حزب الله عن الموافقة عليه، ما يحّد من الحاجة إلى استعمال القوة القاهرة إزاء المعارضين. وفي خضمّ الأجواء الإعلامية المشحونة طائفياً، بل التي تنشط فيها جهود التعبئة الفئوية دون هوادة، يجرى تقديم هذا الاستيلاء الإيراني على القرار الوطني على أنه وحسب ممارسة سيادية للطائفة الشيعية، ويسوّق لسائر الجماعات والطوائف على أنه خطوات ضرورية لمواجهة التطرف والإرهاب (السنيين). وعليه، فإن الممارسة الانتخابية في السياق اللبناني المفتقد للأبعاد الوطنية تمسي اختباراً لمدى نجاح الجهود الطائفية بالحشد والتعبئة.

وفيما إيران قد حققت ما يقارب السيطرة الكاملة على الصوت الشيعي في لبنان، فإن السعودية بدورها قد أرست نفوذها على معظم  الطائفة السنية، وإن كانت أشكال السيطرة أقل انتظاماً. وقد سعى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى تمتين قبضته على هذه العلاقة، فدفع برئيس الوزراء اللبناني إلى الاستقالة خلال زيارته للرياض، إلا أن هذا الأسلوب المتشدد جاء بنتائج عكسية، ما ترك بدوره الأثر السيء على إمكانية الاستفادة من الدور السعودي لموازنة النفوذ الإيراني في لبنان. وفيما الجهود مستمرة لترميم العلاقة غير المتوازية بين الجانبين، سعت الزعامة السنية، شأنها بذلك شأن الزعامات المسيحية، إلى التجوال بين پاريس وواشنطن والقاهرة وأنقرة، بحثاً عن السبيل لتجنب ضرورة الإذعان للنفوذ الإيراني.

والواقع أن الزعامات اللبنانية عامة، المسيحية والسنية والشيعية والدرزية، قد نجحت في المراحل الماضية من إدارة علاقاتها بالجهات الخارجية بما يحقق لها مقادير من  الترجيح إزاء خصومها المحليين. وهذه الزعامات كافة قد استفادت من النظام السياسي الطافح بالإشكالات البنيوية لتقديم بعض الخدمات لقواعدها، فيما تعاظمت استفادة الأوساط المقربة منها ضمن إطار من المحسوبيات المتبادلة. أما استقرار البلاد وما يجاورها فقد تحقق على الغالب في إطار «مجلس إدارة» افتراضي من الفاعلين الدوليين. والأعضاء الأساسيون لـ «مجلس الإدارة» هذا، في حقبته الأكثر انتاجاً، كانوا سوريا، التي اضّلعت بالدور التنفيذي الأول، وإيران والسعودية وفرنسا والولايات المتحدة، فيما كان لإسرائيل صفة «المراقب». ثم كانت المستجدات على مستوى المنطقة والعالم، ما أدّى إلى شغور مقاعد عديدة في هذا «المجلس»، وترقي إيران إلى صدارته. فما كان بالأمس ليونة ضمن النظام السياسي اللبناني القائم تسمح بتوظيف العلاقات الخارجية المتنافسة لصالح الأطراف الداخلية، أمسى اليوم سبيلاً متاحاً لإيران لإعادة تشكيل الداخل السياسي اللبناني، مع غياب ما يوازنها، لتعزيز سيطرتها على لبنان من خلال الوسطاء والأدوات.

إقرأ أيضاً: ورثة الطوائف في الانتخابات اللبنانية

ويقتضي «الميثاق الوطني» اللبناني أن يكون التمثيل والسلطة في لبنان مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. إلا أن هذا المقتضى عرضة لقراءتين متواجهتين إزاء الانخفاض في نسبة المسيحيين ضمن التعداد السكاني العام في لبنان، والتي وفق التقديرات الراجحة، في الغياب المتعمد للإحصاء العلمي، قد تقلّ عن الثلث. القراءة الأولى ترى وجوب أن يشغل مراكز السلطة والإدارة العامة في لبنان أعداد متساوية من المسؤولين والموظفين المسيحيين والمسلمين، على أن يكون كل منهم ممثلاً ومولجاً بالخدمة العامة لعموم اللبنانيين، بما يحافظ على مبدأ الديمقراطية الصادقة ويتجنب التمثيل التفضيلي. أما القراءة الأخرى، فترى في انتخاب المرشحين المسيحيين بأصوات المسلمين خرقاً للميثاق، وتطالب بخطوات تصحيحية لضمان «حقوق المسيحيين» بالتمثيل التفضيلي. والقانون الانتخابي الساري المفعول للانتخابات القادمة، والذي جرى إعداده بما لا يعترض فرص الفوز لأي من زعماء الطوائف، فيما يضمّ بعض مقومات النظام النسبي، يجري تقديمه على أنه تسوية بين القراءتين. هو بالفعل مقايضة، ولكنه صفقة تؤهل وحسب وسطاء إيران من تعزيز مواقعهم، فيما يُضَخّ في الجسم السياسي اللبناني المزيد من التأكيد على أن الفرز الطائفي هو أساس المشروعية.

وإذ يعتز لبنان بظاهره «الحضاري» الغربي، فإن ثقافته السياسية لا تزال قاصرة على مستويات عدة لتبلغ مستوى الديمقراطية الصادقة، ولا سيما مع الغياب التام لمفهوم الديمقراطية الحزبية الداخلية لدى كافة تشكيلاته السياسية. فالأحزاب الرئيسية في لبنان برمّتها قياديات قائمة إما على أسر الزعامة السياسية أو على أمراء الحرب. وقد نشأت أحزاب جديدة، والبعض منها قد أبرز البرامج السياسية التفصيلية المتطورة، إلا أنها، دون استثناء يذكر، تقوم حول شخصية سياسية صاعدة تطمح بأن تبلغ مبلغ الزعامات القائمة في نفوذها القيادي. والواقع أن صف الزعامات السنية والشيعية على السواء قد تقلّص نتيجة سطوة النفوذ الخارجي وتسطيح التعددية ضمن كل من الطائفتين. أما المجتمع المسيحي، فقد نجا بقدر أقل من التسطيح، لكن دون أن يتمكن من اجتراح أي تشكيل سياسي يحظو بأي قدر من الديمقراطية الداخلية. وفي هذا العوز عائق عميق أمام تحقق الديمقراطية الحقيقية في لبنان.

لبنان إذن يعاني من سيادة منقوصة نتيجة للاختراق الإيراني، ومن هوية وطنية غير مكتملة، ومن نظام سياسي طافح بالإشكالات البنيوية، ومن قانون انتخابي مهجّن ومأزوم، ومن غياب كامل للديمقراطية الحزبية الداخلية، ولا سبيل لاستشفاف سبيل مباشر له نحو الديمقراطية الصادقة. ورغم ذلك، فإن الانتخابات، والجولة القادمة منها بعد أسابيع قليلة، هي عنصر فائق الأهمية للمحافظة على الاستمرارية لهذا الوطن في منطقة السائد فيها هو الانحلال والتلاشي.

إقرأ أيضاً: الانتخابات النيابية في لبنان: الدويلة ليست قدراً

والاحتلال الإيراني المستتر للبنان هو حقيقة قد اختار عدد كبير من اللبنانيين أن يتجاهلها. ويمكن اعتبار التظاهر بأن الحياة السياسية في لبنان جارية بشكل طبيعي هو بالفعل مساهمة في تقديم الغطاء لإيران. وقد يكون ولي العهد السعودي، حين سعى إلى خضّ المعادلات الداخلية الللبنانية قد أراد بالفعل كشف الغطاء عن هذا الاحتلال المستتر. وخطوة من هذا القبيل قد تكون لازمة لا محالة عند استنفاد سائر السبل. إلا أنه يمكن كذلك أن يُلحظ أن صرح السيطرة الإيرانية على لبنان مبني على الاستفادة من عناصر مرجوحة على المستويات المتتالية. أي أن النفوذ الإيراني ليس وليد القوة العظمى الراسخة، بل هو نتيجة موازنات دقيقة عرضة للانهيار مع أي تبديل مؤثر عند أي من مستوياتها. فالشمولية التي يظهرها حزب الله ليست حقيقة واقعة في كاملها، بل التهويل بها يعود وإن جزئياً إلى تصوير دعائي متعمد، والاستيلاء على القرار الشيعي ليس أمراً غير قابل للنقض، بل إن أصوات شجاعة من الطائفة الشيعية تبقى قادرة على التحدي. والنظام السياسي القابل للتطويع يمكن كذلك تسخيره للتصدي للهيمنة، والانتخابات التي يراد لها أن تكون نتائجها تقارب المحسوم يمكن اختراقها، وأي اختراق، وإن بمقعد واحد في المجلس النيابي، يمكن توظيفه كمنطلق لإسماع الصوت الرافض، وفي حين أن الأحزاب والتيارات لن تعمد طوعاً إلى تحقيق الديمقراطية الداخلية، فإنها كافة عرضة للإحراج والدفع القسري باتجاه الإصلاح.

والفاعل هنا هو مؤسسات المجتمع المدني والتي لا يفتقر إليها لبنان، مع المزيد من وضوح الرؤية لديها.فالمجتمع المدني في لبنان قد تمكن من تحقيق التواصل الأفقي المخترق للطوائف، ومن شأنه بالتالي أن يكون عامل التغيير المطلوب. إلا أن بقاء هذا المجتمع وازدهاره ، وإمكانية استفادته الفورية من الفرص التي قد تسنح، رهن بتحقق قدر من الاستقرار السياسي، وإن كان ذلك نتيجة وهم في الممارسة الديمقراطية.

السابق
إعتداء على محام في الضاحية الجنوبية لا يحرّك نقابة المحامين
التالي
لافروف: الارهابيون لن ينالوا على هدنة