نصر الله في «محكمة الحريري»

ثمة من يعتقد بأن لبنان يعاني سياسيا من ازدواجية تشبه عوارضها تلك التي يعاني منها الأفراد المصابون بمرض الـ”شيزوفرينيا”.

يترسخ هذا الاعتقاد، أكثر فأكثر، مع حلول الذكرى الثالثة عشرة على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في عملية إرهابية كبيرة أودت معه بحياة 21 شخصا وجرح 226 آخرين.

ستتميز السنة الثالثة عشرة بعد اغتيال الحريري، بصدور أول أحكام المحكمة الخاصة بلبنان على أربعة متهمين، بعدما أسقط الحق العام، وتاليا المحاكمة، عن الخامس على لائحة الإتهام، وهو مصطفى بدر الدين الذي قُتل في سورية، في عملية مخابراتية لم تتضح حقيقتها بعد.

ينتمي هؤلاء المتهمون إلى الجهاز الأمني التابع لـ”حزب الله”، الشريك في الحكومة اللبنانية التي يترأسها سعد رفيق الحريري، والناخب الأول لرئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، والراعي لرئيس المجلس النيابي نبيه بري، والمتعهد الحصري لميليشيا مسلحة تُعتبر امتدادا للحرس الثوري الإيراني ـ تطلق على نفسها تسمية مقاومة ـ وتتمدد أعمالها العسكرية في الإقليم.

تحول رفيق الحريري، بعيد اغتياله، إلى رمز لبناني استقلالي، إذ شهد لبنان على إثر استشهاده، انتفاضة شعبية وسياسية أدت إلى خروج الجيش السوري من لبنان، بعد احتلال دام حوالي 35 عاما، كما أصبح عنوانا لتحالف وطني عريض هدفه إقامة دولة مركزية قوية في البلاد.

تصدى “حزب الله” في تحالف أسسه ـ سمي بقوى 8 آذار ـ لقيام لبنان الجديد، وعمل، بكل ما أوتي من وسائل قوة وبطش، على تحقيق هذا الهدف.

ويعتقد كثيرون في لبنان، في ضوء التطورات التي حصلت خلال السنة الماضية، أن “حزب الله” حقق أهدافه، فسقط التحالف المناوئ (قوى 14 آذار) وأصبح تيارات متناثرة ومتصارعة، وتقزّمت الأهداف الوطنية إلى مستوى وجوب التكاتف لإيجاد حل لمشكلة تراكم النفايات.

وسط هذه المتغيرات السياسية، واصلت “المحكمة الخاصة بلبنان” أعمالها، حيث يبرز تورط مجموعات تنتمي إلى “حزب الله”، ليس فقط في المحاكمة في قضية الحريري التي وصلت إلى فصلها ما قبل الأخير، بل أيضا في ثلاثة ملفات أخرى وهي: اغتيال جورج حاوي ومحاولتا اغتيال مروان حماده والياس المر، بحسب ما تشير المعلومات المتوافرة عن قرار الإتهام المشترك، الذي تأخر صدوره عن التوقيت المرتقب ـ ولو لم يحدد رسميا ـ في هذه القضايا الثلاث.

وإذا كان “حزب الله” كتنظيم غير متهم، عملا بمبدأ المسؤولية الفردية عن الأعمال الجنائية، إلا أن هذا الحزب، وبصورة علنية وعلى لسان أعلى مسؤول فيه، أي الأمين العام حسن نصر الله، تفاخر بحماية المتهمين، وهدد بقطع اليد التي تحاول أن تمتد عليهم.

وإذا كانت المحكمة لم تحرك ساكنا حيال تبني نصر الله للمتهمين، إلا أنها تعاطت مع مواقفه الموثقة، على أنها أدلة قانونية يستطيع الإدعاء العام استعمالها، تأكيدا منه على صحة ما ذهب إليه في القرار الإتهامي.
وفي آخر القرارات الصادرة عن غرفة الدرجة الأولى في المحكمة، منذ مدة قصيرة جدا، ظهر نصر الله شخصية مركزية في تثبيت قرار الإتهام، من خلال الإعتماد على أقواله، تثبيتا لمعطيين مفصلين، وهما:

أولا، إعتراف نصر الله بأن الشبكة الهاتفية المغلقة، المصطلح على تسميتها بـ”الخضراء”، هي خاصة بجهاز الأمن التابع لـ”حزب الله”. ووفق قرار الإتهام، فإن هذه الشبكة تضم من أشرف ونسق تحضيرات اغتيال الحريري، و”فبركة” عملية التضليل عبر ما بات يعرف بفيلم أحمد أبو عدس.

ثانيا، تأكيد انتماء جميع المتهمين الذين توصل التحقيق إلى كشف هوياتهم إلى “حزب الله”.

إقرأ أيضاً: المدعية العامة الدولية تستقيل… والأسد يفلت من العقاب

وبفضل نصر الله جرى قبول الإفادة المطوّلة التي كان قد أدلى بها رئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللواء وسام الحسن، قبل مدة وجيزة على جريمة اغتياله في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2012.

وفي إفادة الحسن تفاصيل خمسة لقاءات عقدها مع نصر الله.

اللقاء الأول حصل في نيسان/أبريل 2005 والأربعة المتبقية جرت بين بداية أيلول/سبتمبر ومنتصف تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه.

عرض خبراء في “حزب الله” خلال اللقاء الأول، تقريرا أعدوه عن اغتيال الحريري، بحيث كشفوا أنه اغتيل بعبوة ناسفة تزن بين 1200 و1400 كيلوغرام من مادة تي.أن.تي تحملها شاحنة “ميتسوبيتشي” بيضاء يقودها انتحاري (يتطابق مع القرار الإتهامي) يرجح أنه أحمد أبو عدس (يتناقض مع القرار)، واعتبر الخبراء في عرضهم الذي استمر ربع ساعة أن مراقبة الحريري كانت سهلة لأنه يتنقل بموكب مكشوف وسيارته محددة.

أما اللقاءات الأربعة الأخيرة، فكانت بعدما اكتشف الرائد الشهيد وسام عيد شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله.

ووفق الحسن، لم تبدأ التحقيقات بموضوع هذه الشبكة إلا بعد مراجعة نصر الله، بموجب قرار سياسي.

ولهذا السبب أخذ الرئيس سعد الحريري للحسن موعدا من نصر الله.

أطلع الحسن نصر الله على نتيجة التحقيقات، ولاحقا أبلغه نصر الله أن هذه الشبكة تابعة فعلا لـ”حزب الله”، ولكنها خاصة بتعقب عملاء إسرائيل، وزود نصر الله الحسن بأسماء ستة أشخاص مع أرقام هواتفهم قال إن الشبكة ترصدهم.

ولكن تحقيقات الرائد عيد الذي اغتيل لاحقا، وتحديدا بُعيد كشف ما كشفته تحقيقاته، أظهرت اتصال ثلاثة أسماء من اللائحة بكبار الشخصيات الأمنية والسياسية في “حزب الله”، ممن يحملون هواتف سميت في قرار الإتهام بـ”الشبكة الأرجوانية”.

وفي هذا القرار جرى استعمال ما قاله نصر الله في مؤتمراته الصحافية وخطاباته لإثبات دقة ما ذهبت إليه إفادة الحسن، للسماح باعتمادها.

ولم تستدع الغرفة الأولى في المحكمة نصر الله إلى الشهادة، إذ إنها، على ما يظهر، اعتبرته مشمولا بأحكام المادة 158 من “قواعد الإجراءات والإثبات” التي تجيز قبول “أي سجل موثوق به لما قاله شخص ما أو كتبه أو عبر عنه بطريقة أخرى(…) إذا اقتنعت المحكمة بأن الشخص لا يستطيع الحضور”.

إقرأ أيضاً: لا تلوموا المحكمة الدولية قبل أن تستروا عوراتكم

بناء عليه، يتضح أن المسافة السياسية التي تفصل لاهاي وبيروت شاسعة جدا، وكأنها مسافة فصل بين كوكب وآخر.

في لاهاي تجري محاكمة غيابية لمن يتحكمون ببيروت.

في لاهاي، العدالة تطارد من اغتال رفيق الحريري، وفي بيروت يتقاسم المتهمون السلطة مع الضحايا.

في لاهاي، نصر الله هو حام للمتهمين، وفي بيروت هو صانع للاستقرار.

عيون كثير من اللبنانيين لم تعد تنظر إلى عدالة لاهاي، فقد انشغلت عنها بالخوف على… بيروت.

وهكذا، فإن العدالة الدولية تسير بتوقيت لاهاي، فيما غريزة البقاء تلزم بيروت أن تعيش على توقيت المتحكم بزر… التفجير.

السابق
غوتيريش: أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» ستكون كابوسا
التالي
تغييرات لـ «حزب الله» وحركة «أمل» في صفوف مرشحيهما