الأموات يكتشفون حيلتنا (قصة قصيرة)

كما تعلمون جميعا فان عزيز نيسين كاتب تركي من زمن اخر، عاش ومات في الالفية الماضية، ولكن الله جل جلاله شاء ان يبعثه حيا في زماننا هذا، استفاق عزيز نيسين فوجد نفسه في مقبرة بعيدة عن موطنه، الا ان المقبرة توسطت مدينة، وخرج الرجل من لحده ليسير في شوارع المدينة، قبل ان يهتدي الى دكان يبيع العرق واللحم على انواعه.

تعرفون جيدا ان عزيز نيسين يحب العرق والطعام الجيد، ويخالط العامة، ويفضلهم عن الخاصة والمثقفين والكتاب من اترابه، وهو أمضى حياته يكتب عن العامة والمهمشين، وكانت تركيا لا تزال تنهض من كبوتها الكبيرة حين دبج نيسين أفضل كتاباته ومسرحياته، الا انه هنا، في هذه المدينة العجيبة التي وجد نفسه بها، لم يتمكن من التمييز ما بين العامة والخاصة، سيما ان الدكان الذي احتسى فيه العرق واكل اللحم النيء كان يرفع إشارة الخمس نجوم على لافتته القماشية دلالة على فخامة قدره. وحين اتى الطفل السوري المتسخ، العامل في الدكان بفاتورة الحساب تأكد نيسين ان المكان ليس شعبيا على الاطلاق، مئات الوف الليرات من اجل نصية من العرق اللبناني وبضعة قطع من اللحم النيء وصحن من الحمص المهروس؟

هرب نيسين من الدكان وخلفه ركض صاحب المحل والعامل الصغير لديه، وصل الى حاجز عسكري، فأوقفه رجال الامن العام، واودعوه السجن بتهمة الدخول خلسة الى المقابر اللبنانية.

هناك كتب نيسين رسالة الى اهله في تركيا.

ولان الامن في لبنان حريص ونبيه ويقظ، فقد صادر حرس السجن رسالة نيسين، وقلبوها طولا وعرضا فلم يفكوا حرفا منها، وصدروها تراتبيا الى القيادة الأعلى فالأعلى فالأعلى حتى وصلت الى مجلس الامن المركزي في لبنان، الذي انعقد برئاسة وزير الداخلية وحشد غفير من الضباط والجنرالات وقادة الاجهزة الأمنية وممثلين عن المناطق المختلفة والشعب، وقادة من المقاومة الإسلامية والقومية والوطنية وأركان الطوائف اللبنانية الكريمة.

هناك اكتشف أحد الباحثين الذين استدعوا على عجل ان ليس في الرسالة أي تشفير، كما اعتقد ممثل المقاومة الإسلامية والقومية والوطنية في الجلسة حفظه الله، ولا أي ترميز كما أشار قائد قوات أجهزة الامن المشتركة، او احالات ايحائية كما قال كبير القضاة المصروف من الخدمة والمعاد استثنائيا للإشراف على قانونية الاجتماع.

الباحث الخبير افاد المجتمعين بان الامر كناية عن رداءة في الخط، وان من كتب النص اما كان في وضعية اضطجاع لا تساعد على الكتابة بخط محترم يليق بالحضور من الوزير الى أصغر جنرال، واما انه صاحب خط سيء، خلقه الله كذلك ليحيل حياته عسرا اثر عسر.

استدعي الكاتب نفسه، اعطوه فرشاة شعر ليحسن مظهره قبل المثول امام المجتمعين، وادخل بينهم ليقف وهو يرتعد رهبة من فخامة الحضور وبريق النجوم على اكتاف الجنرالات.

  • إقراء يا هذا. صرخ فيه كاتب المحضر.
  • ما انا بقارئ يا سيدي. أجاب نيسين وفرائصه تهتز احتراما.
  • ولك، كاتب رسالة سرية ولا تريد الاعتراف؟

أسقط في يد المسكين نيسين وانهار اثر مواجهته بالدليل القاطع وبدأ بالقراءة:

أحم.. احم.

أقول في الرسالة يا سادة: يا اخوتي في تركيا، لقد اعادني الباري الى الحياة الدنيا بعد ان كنت ملتذا بالخمر والنساء وضروب الفسق والفجور الحلال في قبري، وقد تحول لسبب اجهله الى روضة من رياض الجنة، ولكن ليس هذا ما اردت ان احدثكم به، المهم، ولنجعل من القصة الطويلة حديثا مختصرا فقد وجدت نفسي في بلد اسمه لبنان.

تعلمون يا اخوتي الاتراك اننا لطالما كنا نرى هذه البقعة الصغيرة ارضا من أراضي سلطنتنا، وبعدها اضمحل صيتها وذهبت ريحها، يا اخوتي والله ما سأحدثكم به من عجائب ما شاهدت.

انتم تعرفون بانني شاهدت الكثير في حياتي، دعوا عنكم مماتي وما تقلبت به من نعيم موعود، ولكني لم اشاهد شعبا مثل هذا، ولا قيادة موقرة مثل قيادة الشعب اللبناني.

حتى لا اطيل الحديث يا اخوتي، وانا اعرف انني بنشر هذه الرسالة ستقضون وقتكم في متابعة حروفها بلهفة شديدة، وتلتهون عن اشغالكم، سأخبركم بما علمت من امر هذه البلاد خلال ساعات قليلة قضيتها في دكان أبو خليل للحم المشوي، حيث اكلت لحما نيئا وشربت عرقا لبنانيا صرفا، وراقبت المقابر والمارة واحوال المدينة التي توسطتها المقبرة.

اخترع هؤلاء نظاما ديموقراطيا لا يحتاج الى الانتخابات، أي نعم، تماما كما أقول، ديموقراطية بلا انتخابات، وحين يملون –وهم يملون من حسن سير الامور وانتظام تدبيرها- يتجهون فجأة الى صناديق الاقتراع، دون مناسبة، أي والله، ويدلون بأصواتهم، ولكنهم يعلمون ان قادتهم هم الأفضل بين البشر، لذلك يعطونهم أصواتهم مرة اثر أخرى.

إقرأ أيضاً: نادر الحريري يدعي على فداء عيتاني: الحرية الإعلامية أولاً!

وليس بالضرورة ان تكون الانتخابات في مواعيدها، يمكن ان تحصل كل أربعة أعوام، وربما كل ثمانية، او عشرة، المسألة متروكة لملل الشعب، هكذا الشعب يقرر من يريد وكيف يريد ومتى ما يريد.

تعتقدون انني امازحكم؟ لا يا اخوتي، تعلمون بانني انا عزيز نيسين، كل كتاباتي تنتقد السلطات، والحكومة، والبيروقراطية، ورئيس البلدية، وانهكت المحافظين في المناطق من كثرة ما سخرت منهم، ولم اترك من شروري أحدا ممن بيدهم الامر الا وكلت له من المساوئ ما يستحق وما لا يستحق. ولكني ها هنا اشهد الله بانني صادق.

ديموقراطية لم اجد مثلها، وخدمات عامة يؤمنها الحكام لطوائفهم دون الطلب. هكذا يخدم الحكام شعبهم دون ان يحتاج لتوقيع عريضة، او رفع تلمس، او كتابة طلب استرحام. كنا نعتقد ان الغرب يجب ان يكون مثالنا الأعلى لبناء تركيا حديثة، ولكن هيهات للغرب ان يصل الى ما وصل اليه هؤلاء القوم.

يا سادتي، هذه الرسالة مختصرة، اعتبروها ناقوس لخطر يحيق بنا، هذه الدولة الصغيرة التي كانت ارضا مهملة أيام سلطنتنا تهدد بابتلاعنا، وتثير في واشنطن، ايما والله، اميركا نفسها، تثير فيها هذه الدولة الصغيرة الذعر.

كيف لهؤلاء القوم ان يقوموا بكل ما قاموا به وهم بالكاد يعدون بضعة ملايين؟

انها عبقرية مردوفة على عزة خصهم الله نفسه بها.

اسمعوا كلامي، وتعلموا.

هؤلاء اخترعوا نظاما سريعا للتواصل بينهم، ليس هذا الجهاز الصغير الذي اصبح في متناول الجميع، لا، انه نظام التواصل عبر الطوائف، يكفي ان تكون من طائفة معينة حتى تشعر بما يشعر به زعيم طائفتك، فاذا خاف خفت مثله او اكثر، واذا جاع اكلت جارك، واذا انتبه بحلقت بعينيك كالكلب الضاري، واذا ما عطش زعيمك شربت انت من دماء اعدائه لترويه، واذا ما اهتاج، عفوكم، نكحت انت نساء الحارة حتى الحبل.

الزعيم نفسه يملك نفس الحس ويبادل جماهيره به أيضا، فاذا ما اهتاجوا نكح نسائهم، واذا ما جاعوا شبع واذا ما عطشوا ارتوى، وهكذا، وحين يشعر بمللهم يطرح امامهم صناديق الاقتراع للانتخاب، انتخاب أي شيء، رئيس حكومة، رئيس مجلس، رئيس جمهورية، اجمل ماعز، اكبر مؤخرة، اصعب مؤامرة.

شاهدت العجب ولن تصدقوني، ولكني الصدق أقول لكم، واكتب رسالتي حتى تتعلموا من الشعب هذا، الذي من شدة ذكائه اخفى تطوره عن القاصي والداني، وراح يستدين بحجة الفقر، ووصلت ديونه الى فوق رأسه، وطمر نفسه في المزابل، حتى لا تكتشف الدول الكبيرة والصغيرة حسن تدبيره وتعرقل سير تطوره.

وتعتقدون ان الاوان أوان مزاح يا اخوتي؟ هؤلاء سيمحون تركيا عن الخريطة، ويزرعون علم الارزة، ويتابعون زحفهم المظفر الى كل أوروبا، ديموقراطيتهم ستلتهم بلادنا بلدا بلدا، وان قاومنا سيغرقوننا بالزبالة، علينا التعلم منهم واللحاق بخطواتهم.

انظروا الى الطريق السريع الذي اخترعوه، هل هو مزاح؟ ابدا والله، لقد اسسوا خدمة “طريق المقابر السريع”، وهي خدمة مشتركة، يملكها البلد ويديرها القطاع الخاص، ويستفيد منها كل المواطنين.

فكرة جهنمية، طريق يربط بين الشوارع والمقابر، وانتم تعلمون ان لكل طائفة في هذه البلاد شارعها، ولذا اسسوا لكل شارع شركة خاصة، تأخذ الموتى من الطائفة الى المقبرة وتعيدهم بعد اصلاحهم.

نعم نعم.

لا رأيت لدى التركمان ولا الأرمن، ولا العلويين ولا السنة، ولا الكرد ولا المسيحيين في بلادي ما يشبه رعاية طوائف هذا البلد لموتاهم ومقابرهم. ها هي الشركات السنية تأخذ موتى السنة الى المقابر، ثم تعيدهم الى الحياة على صور جدارية كبيرة بعد ان يتخلصوا من كل مساؤي الحياة، ويتحولوا الى ملائكة صرفة، والموارنة أيضا، والشيعة، والدروز والعلويين، الأرمن الكاثوليك، الاقباط، الاشوريين، الكلدان، الشيعة…سبق ان قلت الشيعة؟ ربما لانهم كثر، المهم، كل طائفة تخدمها شركة او شركات، تحمل الموتى من شارع الطائفة نحو المقبرة، ثم تعيدهم الى الحياة ليقودوا شعوبهم. انه العجب العجاب، ولم ار في حياتي وموتي ما يشبه ذلك. ويقود القتلى والموتى البلاد من عن الجدران حيث ترفع صورهم، اليس هذا من اعجب ما اخترعه ابن ادم؟

شركات تخدم طريق المقابر السريع في الاتجاهين؟ والله هذا لم نكن نحلم به في تركيا مع اننا نسخنا وقلدنا صناعات الكوكب كله.

عندما وصل نيسين الى هذا الحد في القراءة، قاطعه جنرال الجنرالات قائد المقاومات الإسلامية والقومية والوطنية الحاضر في الاجتماع، وسأله:

عزيزي العزيز نيسين، وما هي طائفتك انت؟؟

إقرأ أيضاً: بعد الإدعاء عليه كيف علّق فداء عيتاني على خطابي نصرالله وعون

السابق
طريق القدس بين الجد واللعب
التالي
لبنان في فخ إيران