لبنان من الحاضنة السعودية الخشنة الى الحضن الغربي الناعم

الخروج عن الحاضنة السعودية ليس خروجا لبنانيا، بل واقع حال الحريرية وتيار المستقبل.

من خطاب الاستقالة إلى بيان العودة عنها، قطع الرئيس سعد الحريري مسافة طويلة وملتبسة، بل رحلة “مصيرية في حياته السياسية” على ما يصف بعض القريبين من تيار المستقبل. سؤال العلاقة مع المملكة العربية السعودية، هو جوهر هذه الرحلة التي بدأت من بيان الاستقالة في 4 تشرين الثاني الماضي من الرياض، إلى بيان العودة في 5 كانون الأول الجاري، وبين المحطتين مسافة إحدى وثلاثين يوماً، شهدت سلسلة من التطورات السياسية والدبلوماسية، من الرياض إلى بيروت ففرنسا وأوروبا إلى واشنطن وطهران.
لم يستسغ أهل بيت الرئيس سعد الحريري مكوثه في السعودية إثر الاستقالة التي “كتبت بحبر سعودي”  فتحرك الرئيس ميشال عون بعدما لمس تشجيعاً من صلب بيت “الرئيس المستقال” وأوعز لصهره وزير الخارجية جبران باسيل بالبدء بجولة أوروبية وإلى تركيا، كان عنوانها استنقاض الرئيس الحريري من الحضن السعودي الخشن، لم يقل الرئيس الحريري المستقيل ما يثبت مقولة أنّه مأسور او محتجز، أو كان مكرهاً على الاستقالة، لكن مسار التطورات خلال شهر الاستقالة، كان يرجح كفّة الميزان لصالح الإكراه السعودي لـ “الإبن الضال”. إذ لم يصدر أيّ موقف من داخل البيت الصغير أو الكبير أي تيار المستقبل، ما يشي بانزعاج أو استياء من الحركة الدبلوماسية أو الموقف الرئاسي الذي كان يرشح بإدانة للموقف السعودي، بل لاقت جهود الرئيس عون الشكر والامتنان من مفتي الجمهورية إلى الرئيس الحريري نفسه، وما بينهما من أفراد في العائلة الحريرية.
يسجل لمستشار الرئيس الحريري نادر الحريري، النجاح في إدارة عملية عودة الرئيس الحريري إلى لبنان وعودته عن الاستقالة، هذا ما يردده أكثر من مصدر في “بيت الوسط”. فالمستشار خاض مواجهة شرسة داخل الدائرة الحريرية، وفرض مساراً في مقاربة استقالة ابن )خاله الشهيد(، لم يكن ليتجرأ عليها أحد في تيار المستقبل، التنسيق كان قائماً مع صديقه الوزير جبران باسيل في كل الخطوات التي اتخذها الأخير في العواصم التي زارها، والقيادة الفرنسية كانت أوّل من تلقف الموقف الملتبس للرئيس سعد الحريري، وتبنت عملية عودته عن الاستقالة على قواعد وشروط جديدة، ليس في مضمون النأي بالنفس، بل عبر إدارة جديدة للتسوية التي كانت قامت عليها حكومة الرئيس المستقيل.
الاتصالات الفرنسية بدأت من الرياض، وانتقلت إلى واشنطن التي لم تكن مرحبة باستقالة الحريري، لأنّها تخلّ بالاستقرار الذي تدعمه واشنطن في لبنان، الاتصالات الفرنسية وصلت إلى طهران، وحياكة “بيان العودة” الذي أضيف على البيان الوزاري بوصفه قرار صادر عن مجلس الوزراء، كان يتمّ بإشراف فرنسي وبمتابعة ايرانية. بيان العودة عن الاستقالة أكّد على النأي بالنفس مجدداً، وأكد في مندرجاته على ضرورة الالتزام بعدم التورط اللبناني في شؤون البلاد العربية الداخلية. وبالتالي فإنّ المعيار في القرار الصادر عن مجلس الوزراء، ليس في أنّه أضاف جديداً إلى البيان الوزاري أو التسوية الحكومية، بل في كونه مرصد لحدود احترام حزب الله لسياسة النأي بالنفس، أي أنّ خروقات هذه السياسة يجب أن تأخذ منحى تراجعياً، لا أن تبقى على حالها أو تزداد في المقبل من الأيام.

إقرأ أيضاً: النأي بالنفس يعود بالحريري عن استقالته بانتظار عودة حزب الله من معاركه

المراهنة على التزام كامل لحزب الله بسياسة النأي بالنفس، ليست واردة في ذهن حتى أكثر المهللين للقرار الحكومي الأخير باعتباره انجاز لتحييد لينان، قصارى ما يعولون عليه، هو التزام رئيس الجمهورية ميشال عون بتطبيق تدريجي لهذا القرار، انطلاقاً من الالتزامات الرسمية اللبنانية أمام الفرقاء الدوليين والتي أنتجت هذه التسوية. الانسحاب السعودي الملحوظ من المعادلة اللبنانية، لا يعبر بالضرورة عن رفض لما آلت إليه استقالة الحريري، ولا عن تبنٍّ لها، بل الأرجح يترجم تحررا سعوديا من أيّ التزامات سياسية أو اقتصادية تجاه لبنان في المرحلة المقبلة.
يذهب بعض القريبين من الرئيس الحريري، إلى حد القول أنّ الأخير تموضع سياسياً بعيداً عن السعودية، لا عدواً ولا صديقاً، بل بين هذا وذاك، مستعيناً بحاضنة فرنسية للبنان، يرى أنّها قد تعين لبنان على قضاء الحد الدنى من حوائجه الخارجية، وقد تساهم في ترميم ما تصدع من بنيان العلاقة التاريخية مع المملكة السعودية في وقت لاحق. خصوصاً أنّ بعض المفوهين في تيار المستقبل يؤكدون أنّ مشروع تزعم بهاء الحريري لتيار المستقبل وللعائلة، لم يكن مجرد شائعة بل أكثر… وقد تمّ اسقاطها من بيت “المستقبل”.

إقرأ أيضاً: لبنان: من أزمة استقالة الحريري إلى سجال النأي بالنفس ومهمة سلاح حزب الله

“النأي بالنفس” كلمة السر أو السحر، قد تعني عملياً بسياسة حزب الله: اكتب ما يحلو لك في القرار الحكومي وسأفعل ما يحلو لي على الارض. أي أنّ هذه العبارة يفهمها كل طرف كما يشتهي لكنه ينفذ ما تقتضي مصالحه، مع المحافظة على صمودها كي تبقى صالحة للاستثمار والترويج. وقد تشكل هذه العبارة مفتاحاً لتنفيذ سلسلة إجراءات دولية على لبنان، بمعنى أنّ التزام هذه السياسة في المعايير الدولية، يرتبط إلى حد كبير بقرارات على مستوى منح مساعدات للبنان، سواء كما هو مقترح في مؤتمر باريس بعد غد، او في محطات اخرى مشابهة.
سياسة “النأي بالنفس” تتأرجح بين هذين الحدين، أي حدّ اعتبارها كلاماً انشائياً لا قيمة فعلية له في سلوك حزب الله، أو باعتبارها لحظة تأسيس لمرحلة جديدة عنوانها عودة حزب الله من الإقليم إلى داخل لبنان. وبين هذين الحدّين هناك تسليم لبناني رسمي بتحييد الساحة اللبنانية وتحصينها من أيّ مواجهات داخلية، وهو ما كانت السعودية تعد له في لبنان كما يؤكد خصومها في لبنان، ويصمت حلفاؤها المستقبليين على هذا الاتهام.

السابق
«التجمع اللبناني»: بيان مجلس الوزراء حمّال أوجه وكل صيغة لا توصِل لتنفيذ القرار 1701
التالي
ترامب: القدس عاصمة اسرائيل!