«إثنوجرافيّة» يوسف بزّي في «ضاحية واحدةٌ… مدنٌ كثيرةٌ»

"ضاحية واحدةٌ... مدنٌ كثيرةٌ"، هو مؤلَّف للصحافي المتأدّب يوسف بزي، قصد من خلاله جمع تحقيقات ميدانية على شاكلة ما يقوم به الصحافيون الاستقصائيون، غير أن اسلوب بزّي الأدبي طغى على المحتوى، لنجد أمامنا كتابا ممتعا يندرج ضمن أدب الرحلات.

الصحافة الاستقصائية، تتميز بأنها عمل ميداني صرف، يحتم على الصحافي الاستقصائي، أن يكون جوّاب شوارع، وأن يكون (إذا ما كان يملك جوهر الروح الإبداعي) جوّاب آفاق حتى في تنقلاته الميدانية، من أجل كتابة تحقيقات صحافية؛ لكن الصحافي الاستقصائي، إذا ما كان يملك تقنية كتابة “أدب الرحلة”، يكون رحالة بالمعنى الحقيقي/ الجوهري للرحالة، ويوسف بزي وهو الشاعر والصحافي، تظهر بصمته الإبداعية، على صعيد كتابة “أدب الرحلات” – وعلى خلفية ما سقناه أعلاه – في كتابه الصادر (عن “دار رياض الريّس) في بيروت، في طبعة أولى مطلع الـ2017)، والذي يحمل عنوان: “ضاحية واحدة… مدنٌ كثيرةٌ”. إذ إن هذا الكتاب، وبعنوانه “اللغز” هذا، يندرج، وفق مضمونه، ضمن “أدب الرحلات”، ذلك أن هذا الكتاب، تُظهرنا قراءته على أن يوسف بزي يتمتع بشخصيّة الرحالة الاثنوجرافيّ أو الإنثوجرافي الرحالة، الذي يتعامل مع موضوعه، تعاملاً إثنياً: (إثنوجرافيا وأدبياً)، في الوقت عينه، وبالنسبة نفسها، وذلك عائد إلى الارتباط الوثيق والمُحكم لأدب الرحلات بالإنثوجرافيا، التي هي مجال من المجالات الإنثروبولوجيّة.

اقرأ أيضاً: قصائد جديدة في «شيرازيات» محمد علي شمس الدين

فلقد حقق يوسف بزي، في كتابه هذا – وعبر التبلور النصّي/ البيانيّ – مقتضيات المفهوم الأساسي للرحلات، التي هي، “اكتشاف للإنسان والعالم”؛ كما حقق، أيضاً، وعبر التبلور المذكور، مقتضيات المفهوم الأساسي للإثنوجرافيا والتي هي، في التّعريف الأكاديميّ: هي كلمة مُعرَّبة، تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة، ومجموعة التقاليد والعادات والقيم، والأدوات والفنون، والمأثورات الشعبية، لدى جماعة معيّنة أو مجتمع معيّن خلال فترة زمنية محددة، وعليه، فإننا نقرأ في هذا الكتاب، (والذي هو بمجموعه سجل إثنوجرافي هام، كسجلّ مرجعيّ في العصر الحديث) وقائع حياة ترحال وتنقُّل، وأسفار، صاحبه، في مساحات زمنيّة ومكانيّة واسعة، متمثّلة في تحقيقاته الميدانيّة (الموسومة هنا، بالكتابات الرِّحليّة، والانطباعيّة واليوميّات، والعامرة كلها، بالعناصر الأدبية/ الثقافيّة والمعلومات الإثنوجرافيّة). وهي تحقيقات (نقدية أملتها الضرورة على الكاتب) عن: الضاحية الجنوبية لبيروت، ومدنية بيروت نفسها (وسط بيروت)، ومدن: باريس، والاسكندرية، وروما، وغزّة، والجزائر، وبرلين، والقاهرة، وبغداد… إلخ، وهذا ما تُطلعنا عليه مقدِّمة الكتاب، التي جاء فيها: كان علي أن أضع في بداية الكتاب، نصّ بيروت التسعينيات وضواحيها، منطلقاً لكتاباتي عن معايشة الأمكنة وتحوّلاتها، وتجربتي في اضطراب الإقامة والتنقّل والتهجير والسّفر و”استكشاف” المدن وأحوالها. وكان عليّ أن أُنهي الكتاب أيضاً بنصّ عن بيروت التي لم تتحقق بعد، توكيداً على استعصاء ثبات المكان، أيّ مكان، على حالٍ نهائية.

كتاب يوسف بزي

إذاً، بداية الكتاب ونهايته بيروت، ليس فقط لنفي تُهمة “السياحة” هنا، لكن لأني استثنيتُ عشرات النصوص التي كتبتُها عن هذه المدنية… بطبيعة الحال، تنتمي هذه النصوص (نصوص هذا الكتاب) إلى زمن كتابتها… هي المطارات والمحطّات والأوتوسترادات واللغات والعبور والغربة والاختلاط والتّيه المُتعمَّدِ في الشّوارع الغريبة والفنادق، والأصوات والوجوه والمباني والأطعمة، والأفكار والصور… هي السَّفر واللقاء والافتراق والعودة. هي أيضاً إصراري المزمن على معاينة مدنـ “نا” العربية في هلاكها المديد، وعمرانها الذي يقول شقاء السياسة والاقتصاد والمجتمع… وهي حسرة وافتنان بمد نـ”هم”، وأسباب سعادتها.

اقرأ أيضاً: كتاب «دمُ الأخوين» لفوّاز طرابلسي: عندما يُصبح قتلُ الأَخِ واجباً دينياً!

الفضل الأول، في عملي هذا يعود إلى تلك التجربة المهنية الاستثنائية، التي مارستها لأكثر من 17، في ملحق “نوافذ” الثقافي (جريدة المستقبل).

السابق
بالصورة: الحريري مع عائلته وعمته وأولادها
التالي
أبو الغيط: لا أحد يرغب بإلحاق الضرر بلبنان