تحذير إلى المدنيين: كي لا أدعو مرةً أخرى إلى قتل لبنان!

قبل يومين، أو ثلاثة، كتبتُ مقالاً قاسياً عنوانه “اقتلوا لبنان إكراماً للبنان”.

ما كان السبب لكتابة ذلك المقال، ومَن أنا لأدعو تلك الدعوة الجسيمة؟

سبب الكتابة، ثلاثة أسباب.

الأول، أن لا أمل في الطبقة السياسية.

الثاني، وهذا هو المهم، أن الساهرين (المزعومين) على معنى لبنان، والمعنيين (افتراضياً) بالمحافظة على فكرته وقيمته وقضيته الحضارية تجاه نفسه، وتجاه العروبة، في الشرق، وعلى استيلاد لبنان الدولة المدنية، هم دون المستوى.

أعني بطريقة مبسّطة، أن العلامات التي ينالها أهل الطبقة السياسية في هذا الاختبار الشاقّ، المتواصل، الخلاّق، هي علامات لاغية، وتجعلهم خارج الامتحان.

إقرأ أيضاً: ترتيب مدَني جامع لـ«البيت الشيعي المعارِض»

وأعني أن العلامات التي ينالها “الساهرون” المزعومون، لا تستفيد من الاستلحاق. إنهم دون المستوى حقاً. وهذا يعني أن لا أمل فيهم.

ما يفعلونه، لا يمكّنهم من الحصول على علامات استلحاق تتيح لهم التقدم إلى دورة امتحان ثانية أو ثالثة.

وما دام هؤلاء وأولئك يوغلون في طريقهم، غير مكترثين ولا آبهين، وما داموا لا يعيدون النظر في مستواهم المتدني، ولا يمارسون النقد الذاتي، القاسي، الصعب، فعبثاً نسكت حيال الجريمة النكراء في حقّ لبنان، تاركين الأولين يعيثون فساداً وخراباً، والآخرين يتخبطون في انعدام الرؤية والأهلية.

مَن يطلق هذا الحكم على هؤلاء وأولئك، ومَن يقول هذا القول الجسيم، زاعماً أنه يستطيع أن يقيّم الناس؟

يطلق هذا الحكمَ، ويقول هذا القولَ، كلُّ الذين يهربون يومياً من لبنان، وخصوصاً الشباب، لأنهم ما عادوا قادرين على القبول بالانهيار الجحيمي الذي يشبه النزول الحرّ في الهاوية chute libre. ولأنهم يريدون أن يبحثوا تحت سماءات أخرى عن بلدان تحتضن قيمهم ومواهبهم وكفاءاتهم ونزاهتهم العالية.

ويطلق هذا الحكمَ، ويقول هذا القولَ، كلّ الذين لا يزالون هنا، مرغمين، أو قابلين، والكثيرون منهم يحاولون من دون جدوى بذل الجهود الجبارة لصناعة حركة تغيير تاريخية تتولّى هذه المهمة الاستثنائية، لكنهم، إما لا يعثرون إلاّ على العصيّ في دواليب جهودهم الذاهبة هباءً… وإما – هم أيضاً – ليسوا أهلاً لهذه المهمة.

يرى أهل الحكمة التقليدية أن الوقائع التي أذكرها، معروفة من الجميع، ويستخدم العارفون منهم بالثقافة اللبنانية التاريخية تعبيراً بالغ الدلالة والبساطة في آن واحد، قائلين لتأكيد هذا الاستنتاج اليقيني: “ما بدّها درس بعينطورة”، في إشارة، من جهة، إلى بداهة هذه الحقيقة، ومن جهة ثانية إلى أهمية تلك المدرسة التي كان يؤمّها الناس من كلّ حدبٍ لبناني ومن كلّ صوب، لتلقّي العلم والتمرس بالكرامة والأصالة والنزاهة والانفتاح والتنوع وسبل استشراف المستقبل، والتي كانوا يتخرجون فيها رجالَ دولة وإدارة من الطراز الأول.

من الطبيعي، والحال ما نرى في لبنان، أن هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يحافظون على لبنان، إنما هم ليسوا أهلاً للاضطلاع بهذه المهمة التاريخية.

لكن، مَن أنا لأدعو هذه الدعوة؟

أنا مواطن عادي جداً. شبه مجهول.

أكتب فقط ما أرى أنه يعبّر عن الوجع، وما يفضح الجريمة المرتكَبة وطنياً وسياسياً وثقافياً في حق لبنان واللبنانيين.

قد أكون مخطئاً في ما أزعمه. جلّ مَن لا يخطئ.

ولكن…

ها هي الوقائع تثبت أن لا خلاص للبنان، لا على يد الطبقة السياسية الموغلة في الفساد والرذيلة السياسية، ولا على يد الذين يزعمون أنهم حرّاس القضية اللبنانية، وقد باتوا في الحكم والحكومة.

دعوتي إلى قتل لبنان، ليست حاقدة، وثأرية. ليست مجرمة ولا شريرة، على طريقة مَن يريدون أن يتخلّصوا من “لبنان الرسالة والقضية الحضارية”، ولا هي من نوع المازوشية، أو السادية، أو من النوعين ممزوجين معاً.

إنها دعوة إلى إطلاق الرصاص على لبنان، هذه الفرس الجريحة، إكراماً لنبل الفرس، ولنبل الفروسية.

والحال هذه، لن أتراجع عن الدعوة إلى قتل لبنان إكراماً للبنان.

وها أنا مرةً ثانية، وثالثة، أكرّر الطلب، وأحرّض، وأستفزّ المعنيين والمجروحين والموجوعين والمرضى بلبنان، وأستدرجهم، من أجل المساهمة في إنهاء هذه المجزرة اليومية المتباطئة.

لماذا؟

كي لا أظلّ أرى لبنان يُقتَل قتلاً جزئياً كلّ يوم، على أيدي الطغاة الذين يشربون دم لبنان من أجل اقتناص خيراته والتربع على حكمه.

شرحتُ السببين الآنفين، الأول والثاني، لكن ما هو السبب الثالث – وهو الأخطر في رأيي – الذي يحرّضني على إطلاق هذه الدعوة إلى قتل لبنان؟

سأتكلم بصراحة قاسية وشفافة.

لقد كنتُ كثير الأمل لرؤية الجماعات المدنية، وهي تتطلع إلى دورٍ ما في العملية الانقاذية.

وقد وجدتُ في هذه الجماعات والأفرد نوعاً من احتمال إيجابي ممكن الحدوث، من شأنه إحداث خرق جليل في فعل التغيير.

لكني سرعان ما رأيتُ أنهم يرتكبون، ناشطاً تلو الآخر، وجماعةً تلو أخرى، أخطاء جسيمة، تجعلهم يتدحرجون – هم أيضاً! – في الطريق الانحداري المخيِّب للأمل المعقود عليهم.

لماذا أقول ما أقول، وبقسوة؟

للأسباب الآتية. وسأستخدم أسلوب المخاطبة المباشرة، وكأني أتوجه إلى الناشطين المدنيين والجماعات المدنية، عيناً بعين:

– إنكم لا تملكون الرؤية المتكاملة للفعل الانقاذي.

– إنكم لا تملكون الإرادة الصلبة المؤمنة بمستلزمات التغيير، وبموجباته، وتضحياته.

– إنكم لا تؤمنون بالتنوّع والاختلاف والتعدد.

– إنكم خصوصاً لا تملكون التواضع.

– تعتقدون أنكم “أنبياء”، وأنكم ستحققون ما لم يستطع أحدٌ قبلكم، في تاريخ لبنان السيادي الاستقلالي، أن يحققه.

ممكن. ليش لأ.

– لكنكم، إلى الآن، لم تقدّموا أي برهان حاسم وجليل، يدلّ على أنكم أهل للاضطلاع بهذه العملية الانقاذية الكبرى.

– لقد خرّبتم ما شيّدتموه في الانتخابات البلدية الأخيرة.

– وتريدون الإجهاز على ما تبقّى من مهابة ومن أمل.

– على كل حال، إذا كنتم تزعمون حقاً أني مخطئ في ما أقول، وأنكم تملكون حلاً حقيقياً يوحي الثقة، فشمِّروا عن زنودكم.

– تفضّلوا. “انزلوا ع الساحة”. شرّفوا.

– كيف؟

– بوضع رؤية خلاّقة للخلاص الوطني.

– بكتابة مشروع متكامل مشترك في ما بينكم. والآن.

– بتوحيد صفوفكم.

– بالتواضع. خصوصاً: بالتواضع.

– بالتنازل عن أنانياتكم وانتفاخاتكم.

– بالتنازل عن الإيغو. يا عيني ع الإيغو!

– بصناعة هيئة طوارئ فورية مشتركة. وماكينة مشتركة.

– من أجل خوض الانتخابات في لوائح مشتركة.

لكن للأسف الشديد.

– لقد كبرت الخسّة في رؤوس الكثيرين منكم، علماً أن بعضكم – أو أكثركم – لا يستطيع أن يحظى حتى بأصوات أقربائه وأصدقائه.

– ع شو نافخين حالكم؟ ع شو؟!

– انتبِهوا جيداً: هذا المقال ليس ضدكم أيها الأصدقاء.

– بالعكس.

– إنه مكتوب من أجلكم. خصوصاً من أجلكم.

– إنه يدعوكم إلى إبراز براهين أهليتكم الوطنية التاريخية، لمواجهة الاستحقاقات الكبرى التي تتهدد مصير لبنان.

– بدون هذا التصوّر المنهجي لسبل صناعة التغيير، لا فائدة من مصادرة أحلام الناس التائقين إلى التغيير، كما أنتم تفعلون حالياً.

– لا فائدة من مصادرة التيار المدني التغييري، وارتكاب جريمة تخييب الأمل، كما أنتم تمعنون حالياً.

– عبثاً تخوضون الانتخابات بالطريقة العشوائية المدمِّرة، النافرة، التي تظهرون عليها حتى هذه اللحظة.

– عبثاً تتحدثون عن أنفسكم، كأنكم فلتة شوط، أو ضربة نرد.

– لا أحد منكم فلتة شوط، ولا أحد منكم ضربة نرد.

– أنتم معاً، ومع الكثيرين من الجنود المخلصين المجهولين، قد تفتحون الطريق إلى الأمل، لتصيروا فلتة شوط، وضربة نرد.

– معاً، قد تقلبون الطاولة على الطغاة.

– هنا ثمة أمل. متواضع ربما. ضئيل ربما. لكن لا بأس بهذا الأمل المتواضع والضئيل.

– فأحيطوه، أحيطوا هذا الأمل بالعناية الفائقة.

إقرأ أيضاً: تجمع لبنان المدني: لحل في عرسال يحمي المدنيين والجيش والسيادة

– بهذه الطريقة فقط، يمكنكم أن تشارِكوا في صناعة حركة التغيير القادرة على جرف هؤلاء الفاسدين إلى خارج التاريخ.

– هذا هو التحدي الكبير والوحيد.

– بل هذا هو الامتحان.

– والمرء يُكرَم في الامتحان، أو يُهان.

أنتم حتى هذه اللحظة، تهينون أنفسكم، وتهينون فكرة الأمل والخلاص والحرية والتمرد والتغيير.

– أرجو منكم أن تكفّوا عن ارتكاب هذه الشناعة غير المقبولة.

– تواضَعوا.

– فإذا ليس من أجلكم، فمن أجل لبنان.

– هذا، لكي لا أدعو مرةً جديدة إلى قتل لبنان إكراماً للبنان.

السابق
البطريرك والملك: اللاجئون والحوار والإسلاموفوبيا بينهما
التالي
بيان صادر عن المجلس الشيعي الأعلى حول مسجد غدراس