الدولة والدويلة في صلح حماس والسلطة

منطق الدولة لا يستقيم مع منطق الدويلة، والفشل اللبناني لا يجب أن يكون مظلة لفشل فلسطيني محتوم في هذا الشأن. أهدى المصريون فلسطين وحدة بقي أن على الفلسطينيين صون الهدية.

إذا ما دُرج على وصف الحرب الدموية التي سيطرت من خلالها حركة حماس على قطاع عزة عام 2007 بالانقلاب، فإن المشهد الذي حمل رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمدالله إلى غزة لا يمكن إلا وصفه بالانقلاب المضاد في المضمون والشكل والتداعيات.

بدا أن رفع صور الرئيس الفلسطيني محمود عباس والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في شوارع المدينة واقعة لافتة تختصر التحول الجذري الذي طرأ على مزاج القطاع، كما على مزاج المسرح الإقليمي برمته.

وبعيدا عن الأبجديات العاطفية التي واكبت تفاهمات القاهرة وحقنت التوق إلى المصالحة بجرعات شعبية غزية عالية خرجت لاستقبال وفد رام الله الحكومي، وبعيدا عن حسابات حماس وقراءاتها في استثمار هذا الصلح وعصر ثماره، فإن الحركة الإسلامية تستسلم من خلال هذا الاتفاق لدكتاتورية الجغرافيا وتذعن للشروط التي فرضتها موازين القوى على قطاع غزة وحكامه، كما على الإسلام السياسي برمته والذي كانت حماس تعول كثيرا قبل سنوات على هيمنته على كامل المنطقة.

ولئن كانت العوامل الخارجية ضاغطة في السابق لتقويض الاتفاقات التي أبرمت في السنوات الأخيرة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، فإن اتفاق القاهرة لا يعكس فقط تفوّق النفوذ المصري في الداخل الفلسطيني على ما عداه، بل يؤكد تراجع نفوذ الآخرين وقصوره عن العبث بالمشهد الفلسطيني في انقسامه وتضاده منذ 11 عاماً.

ولا يبدو بما توفر من المعطيات أن النفوذ الخارجي الذي تملكه دول كتركيا وإيران وقطر لدى حركة حماس قادر على تعطيل خيارات القاهرة، كما لا يبدو بما توفّر من معطيات أيضا أن هذه الدول تملك أن تعطل ما بات، على ما يبدو، توافقا فلسطينيا مصريا دوليا على إغلاق ملف الانقسام.

في علم السياسة تعلن حماس هزيمتها وهي لا تجتهد كثيرا في تقديم أمر المصالحة بصفته نصرا لخياراتها. سوقت الحركة منذ عام 2007 نفسها بصفتها البديل المقاوم لـ“سلطة خانعة” والخيار النزيه لـ“حكم فاسد” والامتداد الجهادي لمنطقة تنقلب على حكم من لا يحكم بشرع الله. فاخرت الحركة منذ انطلاقتها عام 1987 بأنها الفرع الفلسطيني لحركة الإخوان المسلمين، وبأنها بعد عام 2011 أضحت الامتداد الفلسطيني لحكم محمد مرسي في مصر وراشد الغنوشي في تونس ومنابر الإخوان التي راحت تطل في اليمن وليبيا وسوريا.

اقرأ ايضًا: من تغطي المقاومة في صيدا؟

في خضوع حماس لمنطق الجغرافيا والتاريخ الذي يصل قطاع غزة بمصر، خضوع لنفس المنطق بعدم ربط مصير فلسطين بمصائر دول كتركيا وإيران.

ناورت حماس بصعوبة وانتهازية في اللعب على وتر الإسلام السياسي السنّي الذي تمثله العلاقة مع تركيا، ووتر الإسلام السياسي الشيعي الذي تمثله العلاقة مع إيران. كان سرياليا محاباة نظام الأسد في سوريا ثم الانقلاب عليه ثم التوسط للعودة مؤخرا إلى أحضانه. وكان صبيانيا التقرّب من السعودية والاستخفاف بخيارات المملكة الإقليمية لاحقا. بدا أنه في دوائر جماعة الإخوان المسلمين كان يحقّ لحماس، بسبب فلسطينيتها، ما لا يحقّ لغيرها، وبدا أن حماس التي لطالما همّشت “الوطنية الفلسطينية” لصالح أممية إسلامية متخيلة، تعود من خلال تفاهمات القاهرة للاستظلال بفلسطين وحدها مبررا شرعيا وحيدا لوجود حماس وديمومتها.

يدخل رامي الحمدالله إلى غزة دخول الفاتحين. تعبّر جموع الغزيين التي احتشدت مرحبة برئيس الوزراء الفلسطيني عن توق القطاع، بعامته قبل نخبهِ، للعودة إلى حضن فلسطين الأصيل. وقد لا تكون حماس نفسها بعيدة عن دفع شارعها للتعبير عن هذا المنحى وهي التي تبدو مهرولة للصلح متعجلة له إلى درجة تخوين من يحول دونه على ما تشي تصريحات يحيى السنوار رئيس الحركة في القطاع.

وربما يجب تذكّر أن تسلّق السنوار مستويات القيادة نحو القمة، وهو الذي يحظى بثقة الجناح العسكري للحركة والخارج، من سجون الاحتلال مَحَضَ حماس بروحية قيادية حاسمة حازمة تستنتج من الميادين في غزة المصالح الحقيقية لأهل القطاع كما مستقبل فلسطين.

تدرك قيادة السلطة وقيادة حماس أن أمر الاتفاق هو شأن متعلق بالأمن القومي المصري. ويدرك الطرفان أن هذه الحصرية في التدخل في الشؤون الفلسطينية وفق تعبير الرئيس محمود عباس، هي مآل طبيعي يتسق مع تاريخ مصر وفلسطين من جهة، لكنه أيضا يعبّر عن مشهد دولي إقليمي مستحدث سلّم مصر مفاتيح الملف الفلسطيني واستسلم له. وفي هذا أن موفدي العواصم الكبرى الذين توافدوا إلى رام الله، كما المعطيات التي تملكها حماس في تواصلها مع العواصم الصديقة، وفرّت لكافة الأطراف الفلسطينية بيئة جيوستراتيجية جديدة تدفع بالمياه الفلسطينية نحو المصبّ المصري وحده.

لم يكن القيادي الفلسطيني محمد دحلان وتياره داخل فتح بعيدا عن تفاهمات القاهرة.

في العاصمة المصرية من يقول إن تلك التفاهمات ما كانت لتتم لولا المناورة التي قام بها دحلان متحصنا برعاية إماراتية مصرية باتجاه حركة حماس.

حرك الأمر مياه راكدة داخل حركة حماس نفسها، وأثار جدلا داخل أروقة القرار الحمساوي، لكنه كشف أيضا تبدل طباع الحركة وارتفاع جرعات البراغماتية لديها وذهابها برشاقة نحو أقصى الخيارات للتخلص من مأزقها الغزي الفلسطيني الإقليمي الدولي.

وفي رام الله من يقول إن الاندفاعة التي أظهرها دحلان باتجاه حماس في قطاع غزة أيقظ “المقاطعة”، كما بارونات اللجنة المركزية لحركة فتح، على حسابات أخرى بدا أن العالم برمته بات يعتمدها.

بدا دحلان رقماً أساسيا في قطاع غزة يعرف بعناية حدود مناوراته ونجاعتها كما يعرف حدود ما يملكه في تحقيق ما لم يتم تحقيقه خلال 11 عاماً. وقد لا يكون من المبالغة استنتاج أن توليفة دحلان هي التي دفعت هنية وعباس إلى طرق أبواب القاهرة بجدية نادرة لتجاوز قطيعة باتت من كلاسيكيات المشهد الفلسطيني خلال أكثر من عقد وباتت في عرف المنقسمين وضعاً نهائيا يؤسس لقيام كيانين ومصيرين منفصلين.

على أن هذا النجاح المصري تعوزه عوامل الديمومة والبقاء. تعلن حماس وتكرر أنها ستسلم القطاع لحكومة الوحدة الوطنية. يريد عباس سيادة حكومية كاملة على القطاع، لا سيما في مجالات الأمن والمعابر. وفي ما ترومه حماس وما تطمح إليه السلطة ما قد يستدعي المثال اللبناني الذي يعرض على نحو فجّ ذلك التعايش المقيت بين الدولة والدويلة، بين شرعية الحكومة والمؤسسات والأمر الواقع الذي يمثله حزب الله.

لا يريد عباس نموذجاً لبنانيا في سلطته، ومن الصعب تصور أن تسلم حماس سلاحها إلى “دولة” السلطة. وفي ذلك التفصيل، الذي لا يعتبر تفصيلا في حالة من يخضع لاحتلال ويقارعه بكافة الوسائل، تكمن شياطين ألغام قد تفخخ تفاهمات القاهرة الفتية.

غير أن في فلسفة تفاهمات القاهرة وفق الروحية المصرية كثير من الواقعية التي تتأسس على الممكن ومهادنة ما يبدو مستحيلا. لتفاهمات القاهرة مصلحة مصرية تختلف عن مصالح فتح وحماس، والحكمة تكمن في تقاطع المصالح جميعها داخل مساحة واحدة. قد تبدو التفاصيل الإدارية المتعلقة بإدارة الناس والموارد أكثر تعقيدا من مسألة سلاح حماس.

تحدث أبومازن نفسه عن سلاح كافة الفصائل في محاولة ربما لإضفاء نسبية فلسطينية عامة على ما هو شأن فلسطيني عام. ثم إن مصر التي يهمها توفير الحدّ المطلوب لاستعادة الوحدة الفلسطينية في مواجهة المجتمع الدولي، قد لا يهمها توفير عناصر متقدمة لا يمكن تقديمها إلا على طاولة المفاوضات مع إسرائيل.

لن يكون “سلاح المقاومة” عقبة بوجه الوحدة الفلسطينية الكاملة. في القاهرة كما في باريس وواشنطن من سيفهم أن ذلك السلاح ليس شأنا فلسطينيا كما هو سلاح حزب الله الذي لم يعد شأنا لبنانيا. يبقى أن منطق الدولة لا يستقيم مع منطق الدويلة وأن الفشل اللبناني لا يجب أن يكون مظلة لفشل فلسطيني محتوم في هذا الشأن. أهدى المصريون فلسطين وحدة بقي أن على الفلسطينيين صون الهدية وحمايتها.

السابق
العرب أمام تحديات الفيدرالية والانفصال
التالي
أكثرية أدوية السرطان «غير مفيدة»