أنقذونا، افضحوهم، رح نموت كلياتنا!

سجن صيدنايا

الملازم الأول مصعب محمد المعتقل في سجن صيدنايا قال لأمه في آخر زيارة له: “افضحوا السجن، قولوا للإعلام كل يوم عم يقتلوا خمسة، بدن يقتلونا كلياتنا، عم يعذبونا، رح نموت من الجوع”. لم يستطع مصعب إكمال الكلام الذي كان يريد أن يقوله لأمه، كون أربعة من العساكر انهالوا عليه بالضرب أمامها عندما سمعوه “يفشي” أسرار السجن، حسب ما تؤكد والدة مصعب، والتي تبحث اليوم عن إعلاميين –عملا بالوصية- يوصلون صوت ابنها ورفاقه من داخل السجن إلى الناس والمجتمع الدولي، آملة أن يتدخل أحد لإنقاذ حياة معتقلي صيدنايا. كانت توصية أم مصعب هي ألا أذكر اسم ابنها في تحقيقي هذا خوفا على حياته، ولكن مصعب استشهد تحت التعذيب بعد أن قدم حياته لإيصال رسالته. أراد أن ينجو رفاقه من بعده. أم مصعب همّها الحالي هو إيصال صوت الشهيد، استغاثته ورفاقَه.

اعتقل الملازم مصعب محمد منذ قرابة الثلاث سنوات، بتهمة النية في الانشقاق عن الجيش. قضى ستة أشهر في فرع 293 للتحقيق، بعدها حُول إلى سجن صيدنايا العسكري الذي يقع في منطقة جبلية قرب العاصمة دمشق. تروي أم مصعب: “زرت ابني أربع مرات في السجن، في كل زيارة أجد على وجهه الكدمات وأراه قد فقد من وزنه أكثر. في الزيارات الثلاث الأولى كان يقول لي إنه بخير، ويحاول أن يطمئنني، كان أيضا يسأل عن زوجته وأولاده، ولكنني كنت أشعر بأن ابني يعذَّب دون أن يستطيع الكلام. كنت أرى الحزن والعذاب في عينيه، وبقيت أرجو عودته، إلى أن شاهدت جثته في براد المستشفى العسكري، وعلى جسده آثار التعذيب الذي أودى بحياته”.

في كل يوم شهيد تحت التعذيب

في كل يوم يقتل العديد من المعتقلين في سجن صيدنايا نتيجة التعذيب الشديد، لا تخفي إدارة السجن جثث المعتقلين الذين يقتلون داخل السجن، بل ترسلها إلى مستشفى تشرين العسكري، حيث تتصل إدارة السجون العسكرية بأهالي المعتقلين لكي يستلموا جثث أبنائهم دون أن يفصحوا عن سبب الوفاة، أما المعتقلون الذين يقتلون نتيجة تنفيذ أحكام إعدام صادرة عن محكمة الميدان العسكري فلا تسلم جثثهم إلى أهلهم.

يقول مجد، وهو رقيب منشق كانت خدمته الإلزامية في داخل سجن صيدنايا العسكري: “المحكمة ليس لها علاقة بعمليات قتل المعتقلين، إدارة السجن هي التي تمارس التعذيب الجماعي الشديد على كافة المعتقلين وتكون عملية القتل عشوائية عادةً.

من كانت لديه قدرة تحمل هذا التعذيب بقي على قيد الحياة حتى الآن، أما الذين لم يستطيعوا فقد قضوا شهداء في الصمت والظلمة. عملية التعذيب ليس لها علاقة بجرم المعتقل، فإدارة السجن لا تعلم شيئا عن “الجرائم” التي سُجن على أساسها هؤلاء المعتقلون”.

إعدام ميداني والجثث في الغابة المحيطة 

في يوم الثلاثاء والخميس من كل أسبوع هناك تنفيذ لأحكام إعدام داخل السجن، وحسب ما قال الرقيب المنشق مجد، فإن توقيت الظهيرة يومي الثلاثاء والخميس، يشهد إرسال محكمة الميدان العسكري قائمة كتب عليها أسماء معتقلين لكي تنفذ فيهم أحكام الإعدام.

يضيف مجد: “يشرف مدير السجن شخصيا على عملية الإعدام. عند الساعة العاشرة يُجمع المعتقلون الذين سوف تنفذ بهم عمليات الإعدام من مهاجعهم، وغالبا ما يكون عددهم بين خمسة إلى عشرة، ويدخل مدير السجن مع أحد الضباط وبعض العساكر الموثوق بهم إلى غرفة المشانق في الطابق الأرضي للجناح (ب يسار) (حسب ما يسميه السجانون)، وخلال نصف ساعة يخرجون من الغرفة بعد أن تكون عملية الإعدام تمت، لتأتي في الصباح شاحنة تابعة لمستشفى تشرين العسكري فتحمل الجثث بعيدا عن أعين عساكر السجن وتأخذها إلى المستشفى، كما قام مدير السجن في الفترة التي قطع فيها الطريق عن السجن برمي جثث المعتقلين في الغابة المحيطة بالمبنى”.

معظم المعتقلين في سجن صيدنايا العسكري حكم عليهم بأحكام قاسية، ويحاكم جميع المعتقلين في محكمة الميدان العسكري.

وهذه عبارة عن محكمة تعمل في الخفاء ولا يعترف النظام السوري حتى اليوم بوجودها، وقد حلت مكان محكمة أمن الدولة التي ألغيت في بداية الثورة السورية خلال النصف الأول من العام 2011، تطلب هذه المحكمة المعتقل مرة واحدة بعد أن يكون قد مضى على اعتقاله عام واحد على أقل تقدير، فيدخل المعتقل غرفة المحاكمة وتُفك عصبة العينين ليرى أمامه لجنة المحكمة، التي تتألف من لوائين عسكريين تابعين للشرطة العسكرية، أحدهما رئيس فرع الشرطة العسكرية، وهو رئيس محكمة الميدان العسكري، واللواء الآخر هو رئيس المحكمة العسكرية في دمشق، كما يوجد في اللجنة ضابطان تابعان لفرع الأمن العسكري يرتديان لباسا مدنيا، ولا تطول فترة المحاكمة أكثر من خمس دقائق يُقضى بعدها بحكم لا يقل عن السنوات العشر، وذلك وفقا لأوراق (الضبط) القادم مع المعتقل من فرع الأمن الذي حوله للمحكمة، ولا يستطيع المعتقل أن يدافع عن نفسه أو يقدم أي أدلة تثبت براءته، أو يوكلَ محاميا يدافع عنه، كما أن حكم هذه المحكمة غير علني، بل سري يسجل في ديوان المحكمة ولا يستطيع أحد من أهالي المعتقلين الاطلاع على هذه الأحكام.

ضباط السجن ينتقمون من المعتقلين لاغتيال العميد طلعت محفوظ

بعد أن اغتالت مجموعة من الجيش الحر رئيس السجن السابق العميد محمد طلعت محفوظ ونائبه أزداد، توحش ضباط السجن وساءت معاملتهم للسجناء. ويقول عمر، وهو معتقل سابق في سجن صيدنايا العسكري: “في إحدى الليالي الشتوية الباردة وعند منتصف الليل استيقظنا على أصوات الأكبال، وهي تنهال على أجساد المعتقلين في المهاجع، التي تقع في الجناح المجاور لجناحنا فأصبحنا نعد الأبواب التي فتحت فكانت عشرة أبواب، فعرفنا حينها أن العقاب جماعي، كون جميع المهاجع في الجناح المجاور عوقبت، فأصبحنا ننتظر دورنا ونقرأ آيات القرآن وندعو الله أن يعمي عيونهم عنا، فتح باب جناحنا وكان أول صوت سمعته هو صوت الضابط الذي نسميه الضابط الطرطوسي. كان يقول: (والله لناخد بالتار يا معلم).

لم أفهم هذه العبارة ولم أفهم لماذا في هذه الليلة كان العذاب وحشيا ولماذا قاموا بتعذيب جميع المعتقلين، ولماذا مات في هذه الليلة خمسة معتقلين من جناحنا تحت التعذيب، حتى حولتُ بعد فترة إلى سجن مدني في إحدى المحافظات فعلمت أن مدير السجن اغتيل على يد الجيش الحر في هذه الليلة. رغم كرهي الشديد لهذا الضابط الظالم لكنني تمنيت لو لم يمت، خوفا على المعتقلين الذين بقوا في السجن فبعد موته توحش بقية ضباط السجن وأصبحوا يريدون أن يأخذوا بثأرهم عن طريق تعذيب المعتقلين حتى الموت”.

معتقلو صيدنايا لا ينتظرون شيئا من المعارضة ويأملون عفو بشار الأسد

تعتيم تام من قبل النظام على ما يحدث في داخل سجن صيدنايا العسكري، يتخذ النظام إجراءات شديدة لكي لا تتسرب معلومات من داخل السجن إلى خارجه. حتى العسكري المفروز إلى داخل السجن لا يعلم كم هو عدد المعتقلين داخله، وهو غير مخول حتى بمجرد سؤال المعتقلين عن أسمائهم أو أحكامهم، ولا يسمح للمعتقلين بالتحدث عن الأوضاع القاسية لأهاليهم أثناء الزيارات. يشرح لنا الرقيب المنشق مجد: “يشدد مدير السجن على العساكر الذين يخدمون في السجن ويمنعهم من الاختلاط بالمساجين، وكل مجموعة من العساكر مسؤولة عن جناحين، ولا يسمح لهم بالتنقل بين الأجنحة الأخرى، كما عاقب مدير السحن بعض العساكر بعد أن وصلته وشايات حول تعاطفهم مع مساجين من نفس قراهم. هؤلاء عوقبوا بالسجن لمدة شهرين”.

يُغَيَبُ المعتقلون داخل السجن، تغييبا تاما عما يحدث في الخارج من تطورات عسكرية وسياسية وغيرها، فيلجئون إلى تحليل أبسط التفاصيل التي تجري داخل السجن، ليستنتجوا منها معلومات عن الوضع في الخارج، ويعتمدون أيضا على المسجونين الجدد، مع أن الواحد من هؤلاء الجدد كان قد أمضى على الأقل ستة أشهر في أفرع الأمن وشهرين في منفردات السجن، قبل أن يدخل المهاجع الجماعية. المعلومات التي يعرفها قديمة أيضا.

إقرأ أيضاً: عن تفاصيل مأساة سنة ونصف في صيدنايا

ويقول المعتقل السابق محمد: “في الفترة الأخيرة من اعتقالي يئست من أن يسقط النظام كما هو الحال لجميع المعتقلين وأصبح أملنا الوحيد هو العفو، وتغييبنا عن الأحداث التي تجري في الخارج زاد من صعوبة السجن فأصبحنا نحلل كل تفصيل، حتى شتائم السجانين أصبحنا نحللها، ونستنتج معلومات من خلال أنواع الطعام التي يأتون بها إلينا، كما أننا لا نستطيع التواصل مع بقية المعتقلين، فنحن محصورون مع ثلاثين شخصا في غرفة واحدة، لا يمكنك أن ترى غيرهم”.

معظم المعتقلين في سجن صيدنايا عسكريون، منهم ضباط ذوو رتب عالية، وبنيهم صف ضباط ومجندون، أغلبهم اعتقل بتهمة نية الانشقاق أو تسريب معلومات عسكرية، وهناك أجنحة خاصة بالمعتقلين المدنيين الذين اعتقلوا بتهم عسكرية كحمل السلاح أو التعامل مع الجيش الحر. بعد ارتفاع أعداد المعتقلين في السجن حولت محكمة الميدان العسكري عددا من المعتقلين المدنيين إلى سجون مدنية في محافظات مختلفة، ولكنهم بقوا تحت سلطة محكمة الميدان العسكري، ويقدر عدد المعتقلين في سجن صيدنايا الأبيض بـ 3 آلاف سجين، أما في السجن الأحمر فيقدر عددهم بـ 6 آلاف، يتوزعون على 160 مهجعا جماعيا و30 زنزانة منفردة، ويقول عمر: “ازدادت أعداد المعتقلين في السجن بشكل كبير. في مهجعي كان عددنا قبل أن أخرج من السجن 31 شخصا، وكانت العدد يرتفع ولكن كميات الطعام بقيت نفسها منذ كنا 14 شخصا، الحصص نفسها أصبحنا نقسمها على 31”.

إقرأ أيضاً: محرقة صيدنايا… آخر جرائم هتلر العصر

لعل الزنازين السرية التي يرمي نظام الأسد بمعارضيه إلى غياهبها منذ صعود الأسد الأب إلى السلطة، هي الصفحة الأكثر قتامةً في تاريخ سلالة الاستبداد إياها. مئات الآلاف من المعتقلين بلا محاكمات والمفقودين، يمكن إنقاذهم فقط بجهد جماعي تضامني عنيد، يطرق كل الأبواب ويملأ العالم بالصراخ لأجل من لن تقوم قيامة البلاد نحو الخير والتقدم، إلا بإنهاء قضيتهم نهاية عادلة، وتسليم كل مرتكبي الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية إلى قضاء منصف. بمعنى آخر يجب أن تصل صرخة مصعب ورفاقه: “افضحوهم..”

السابق
العسكريون المخطوفون: ماذا فعل عباس إبراهيم في العراق؟
التالي
من أحمد اسماعيل إلى الحزب الشيوعي وحنا غريب