بدء تهاوي «السلبطة» الإيرانية

تتسارع الأحداث في الإقليم، وتحمل كل يوم مزيداً من المتغيرات، وكثير منها يدل على بدء تهاوي «السلبطة» الإيرانية، التي وصلت يوماً إلى حدِّ تبجح قيادات الحرس الثوري الإيراني، بأن السيطرة تمت لهم على أربع عواصم عربية!
دعونا نبدأ من العراق؛ فهو مربط الفرس في مخطط الهيمنة الإيرانية على بلاد الرافدين؛ ومنه إلى كل شرق المتوسط. منذ قرار بريمر، الحاكم الأميركي للعراق، حل الجيش العراقي وتسليم الحكم لأتباع الولي الفقيه، تغلغل النفوذ الإيراني في كل مفاصل البلاد، وأحكم الحرس الثوري قبضته على الإدارة والأجهزة الأمنية، والتفت طهران على العقوبات الأميركية والدولية بالاستيلاء على جانب من نفط جنوب العراق، لتمويل الحرس الثوري وعمليات التوسع و«السلبطة» في المنطقة، ومع فرض نوري المالكي حاكماً، تم استتباع العراق؛ البلد الكبير في تنوعه والغني بتاريخه وبثرواته وبكفاءات أبنائه. لكن التواطؤ بتسهيل سيطرة «داعش» على الموصل ومناطق واسعة من العراق، قلب السحر على الساحر؛ إذ سرعان ما هددت هذه القوى الإجرامية بغداد، فتراجعت عنجهية النظام الإيراني، لتطلب بغداد دعماً أميركياً كان أول شروطه إطاحة المالكي وإحلال العبادي مكانه، ولولا بطولات قوات «البيشمركة»، والجيش العراقي مدعوماً من الأميركيين، لكان البغدادي الآن يدير من الموصل القسم الأكبر من العراق… هذه المرحلة شهدت هبّات شعبية عراقية من بغداد إلى النجف والبصرة تحت شعار موحد: «العراق حرة حرة… إيران برّا برّا».

اقرأ أيضاً: لا يكفي العداء للسُنّة كي يُبنى وطن

على هذه الخلفية يشهد العراق تطورات بارزة؛ من إطلاق السيد عمار الحكيم «تيار الحكمة الوطني» لخوض الانتخابات المقبلة، إلى اعتزام العبادي تشكيل حزبه المستقل بعيداً عن حزب الدعوة (الذي يتزعمه نوري المالكي)، وصولاً إلى الزيارة فوق العادة التي قام بها السيد مقتدى الصدر للرياض، وهي محطة تفوق بأهميتها كل ما عداها، هذا إضافة للصراع الكبير والمستمر بين النجف وقم. لكن لتحرك الحكيم وزيارة الصدر أهمية نوعية، لما يمثل كل منهما من حيثية عراقية، استعصت على دموية نظام صدام حسين وإرهاب الحرس الثوري معاً، والأهمية تكمن في وحدة الهدف؛ ألا وهو رفع الهيمنة الإيرانية عن قرار العراق ورقاب العراقيين.
تزامناً؛ تبدو الرياح التي تعصف بالوضع في سوريا ليست مواتية لطهران؛ فمن اتفاق المنطقة الآمنة في الجنوب السوري، إلى منطقة «خفض التصعيد» في الغوطة الشرقية، لم يكن أمام ميليشيات الحرس الثوري إلا الانصياع والانسحاب، والقبول بما تمت حياكته في عمّان بين الروس والأميركيين، وفي القاهرة بين الروس والمعارضة السورية، وواضح لطهران أن موسكو التي جزّأت اتفاقات آستانة أعطت الأميركيين موافقتها على إلغاء أي دور لطهران في مراقبة مناطق «خفض التصعيد»، التي ستتسع باتجاه البادية وريف حمص وحي جوبر ومطار دمشق الدولي، ولاحقاً بالتوافق مع أنقرة، وليس مع طهران، سيأتي دور إدلب التي حولتها «النصرة» إلى ما يشبه الإمارة لـ«القاعدة» رغماً عن إرادة أهلها، وتشكل اليوم الثقب الأسود في الجسد السوري.
هذا الوضع المستجد حصر النفوذ الإيراني في وسط سوريا، حول دمشق وأجزاء من حمص والقلمون الغربي، حيث بادرت طهران للإمساك بقوة بهذه المناطق، وفتحت عبر ميليشيا «حزب الله» ما سميت معركة جرود عرسال، وهي، بعيداً عن التضخيم الإعلامي المدروس والناجح، اقتصرت على مناوشات شكلت غطاء لمفاوضات سريعة، أنجزت اتفاقاً بين «حزب الله» و«النصرة»، هو ترجمة لتوافق مصالح بين الدوحة وطهران، كانت ذروته «اتفاق المدن الأربع»، وما رافقه من تهجير قسري وتغيير ديموغرافي، فجاء الاتفاق الجديد الذي انطلق من انتهاء وظيفة هذه المجموعة الإرهابية في الجرود ليوفر لعناصرها، وهم قتلة جنود لبنانيين، الانتقال الآمن لإدلب حيث لم تنته الوظيفة هناك، ومعهم طبعاً ملايين الدولارات من قطر وعدد من المحكومين بتهم إرهاب ثابتة تم إطلاقهم من سجن رومية، ويفوز «حزب الله» الذي استعاد أسرى له وجثث بعض مقاتليه، بـ«مجد» تحرير هذا الجزء من الجرود اللبنانية، وبخطاب «نصر كبير»، لا يمكن أن يغطي بأي حال من الأحوال، تراجع النفوذ الإيراني المريع في سوريا.
هناك قناعة واسعة في لبنان، ازدادت مع ما كشفته المفاوضات، بأن ما جرى في الجرود تمَّ على حساب مؤسسات الدولة والجيش، وهو سيزيد من قبض «حزب الله» على مفاصل القرار في لبنان، وما كان ذلك ليتم لولا مواقف التحالف السياسي الحاكم، التي تراوحت بين التواطؤ والتبرير، أو الصمت المريب بذريعة الدفاع عن استقرار صيغة الحكم؛ عهداً وحكومة (…)، والقاصي والداني مدركٌ أن هذه السياسة هي ما يتيح للجهة المهيمنة قلب الطاولة متى شاءت. والكل مدرك حقيقة الخلفية السياسية، فأهل الحكم، الذين دفنوا رؤوسهم في الرمال عما يدور حولنا، إنما فعلوا ذلك لضمان استمرارهم في تحاصص البلد… فيما يمسك «حزب الله» بقرار البلد الذي لم يعد يشبه اللبنانيين كثيراً.

السابق
لا يكفي العداء للسُنّة كي يُبنى وطن
التالي
معاون أول متقاعد يدهس عميداً متقاعداً وزوجته