فيلم هوليوودي طويل: أي أميركا يريد الأميركيون؟

«أميركا أولا» شعار رفعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حملته الانتخابية واعدا بإعادة المجد والعظمة للأمة الأميركية، وبتحسين الاقتصاد والقطيعة مع نهج سلفه باراك اوباما. وعود ترامب وشخصيته المثيرة للجدل، اوصلته رغم كل الانتقادات بحقه الى البيت الأبيض. وقد رأى البعض في ذلك مؤشرا الى أزمة داخلية كانت تعيشها الولايات المتحدة، يمكن اختصارها بالانخراط في العولمة الى حد ثمالة ذابت معها حدود الدولة-الأمة الحامية للمواطنين، والضامنة لرفاهينهم وحريتهم، وذابت معها الكثير من الامتيازات. سيطرت الشركات المتعددة الجنسيات على الاقتصاد، وأخذت القلة التي تديرها تبحث عن مصالحها الشخصية خارج الحدود، بعض النظر عما يمكن ان يتركه ذلك من انعكاسات على المواطن الأميركي.

ترامب حرك المشاعر القومية الأميركية، ووعد بحماية المواطن الأميركي «الأصيل» من تلك المنظومة. وعد بالعودة الى «صنع في اميركا» وخلق فرص العمل، وبالرفاهية والأمن. ولتحقيق ذلك، قال انه مستعد لمقاربات جديدة. ترامب المرشح انتقد وقتها طريقة تعامل الادارة السابقة مع كثير من الملفات ومن بينها ايران وروسيا. وقد حضرت الاخيرة بقوة في الحملة الانتخابية وما بعدها، وتحديدا بعد الضجة التي أثيرت عن لقاءات عقدت بين مقربين لترامب ومسؤولين روس، وعن تدخل روسي في الانتخابات الأميركية. وقد وصلت الأمور حد الأزمة التي أطاحت مايكل فين مستشار الرئيس للامن القومي، ومن بعده جيمس كوني مدير الاف بي آي الذي أقاله ترامب من منصبه.

اقرأ أيضاً : ترامب يتحدث عن مظلمته: لم يظلم رئيس مثلي في أمريكا!

وكأنه فيلم أميركي طويل، ذاك الذي تابعه الملايين داخل أميركا وخارجها، حين أدلى المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي الاميركي جيمس كوني بشهادته أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي. كانت الأنظار مشدودة اليه داخل القاعة وعبر شاشات التلفزة، وهو يتهم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالكذب وبتشويه سمعته وسمعة الأف بي آي. ولكن عندما وصل الأمر الى التساؤل الأهم، وهو هل سعى ترامب الى عرقلة العدالة، أحجم كوني عن توجيه إتهام مباشر. وكان ملفتاً إعترافه بتسريب ملاحظاته الخاصة حول إجتماعاته مع ترامب الى الإعلام، عبر أحد أصدقائه، مبررا ذلك بهدف تسريع تعيين محقق في قضية تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية.

محامي الرئيس الأميركي تلقف الشهادة محاولا تسويقها لصالح ترامب، حين قال إنها تؤكد أنه لم يُعق العدالة، وإنها تعلن أمام الملأ أن التحقيقات بشأن تدخل روسي في انتخابات الرئاسة الاميركية، لم تطاول الرئيس،ولا إثبات بأن صوتا واحداً تغير نتيجة أي تدخل من هذا النوع. وذهب بعيداً الى حد وضع إعتراف مدير الأف بي آي السابق بتسريب المعلومات السرية في عهدة السلطات المختصة، مطالبا بفتح تحقيق. في حين خرجت المتحدثة باسم الأبيض برد فعل مباشر وبسيط: الرئيس لا يكذب.

مما لا شك فيه، أن الولايات المتحدة الاميركية تعيش منذ فترة حالة استقطاب، عمقتها شهادة كومي. فكيفما تابعت ما يجري عبر وسائل الاعلام من صحف ومحطات تلفزيونية الى وسائط التواصل الاجتماعي، تلحظ انقساما حاداً بين من هو مع ترامب ومن هو ضده. اعتماد الهجوم وسيلة للدفاع، والتشكيك في مصداقية الطرف الآخر، كانت السمة الأبرز للأخبار والتعليقات. مؤيدو الرئيس وجدوا له المبررات، ومنتقدوه أمطروه بالاتهامات. ثمة من اعتقد أن في شهادة كومي تبرئة للرئيس، كونه أجاب بالنفي على سؤال السناتور الجمهوري ريتشارد بير: «هل طلب منك الرئيس في أي وقت من الاوقات أن توقف التحقيق حول التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة لعام ٢٠١٦». وثمة آخرون رأوا مع السناتورالديموقراطي مارك وارنر، أن الشهادة تُظهر الخرق الواضح للقواعد التي وضعت بعد فضيحة «ووترغيت» لمنع أي تدخل سياسي في البيت الأبيض في تحقيقات الأف بي آي، وأنها تمهد الطريق أمام المضي قدما في محاسبة الرئيس.

اذا كان تشبيه شهادة كومي بفيلم هوليوودي، طغت عليه الشخصيات والاحداث على القضية الرئيسية (التدخل الروسي في الانتخابات الاميركية) في محله، فإن تداعياتها ستكون ربما مسلسلا طويلا ما زلنا في بداية أول مواسمه. فالحديث عن توجيه تهم للرئيس، أو اللجوء الى الكونغرس لمحاولة عزله، بحاجة الى إجراءات عديدة ليست بالبساطة التي يظنها البعض. حتى عندما وجدت تسجيلات وإثباتات أدانت الرئيس ريتشارد نيكسون عقب فضيحة ووترغيت، إستقال الرئيس ولم يُدن أو يُعزل. وفشل الكونغرس أيضا في عزل بيل كلينتون، رغم أنه وجده مذنبا بتهمة الكذب تحت القسم. وفي الحالتين، كان الكونغرس مسيطرا عليه من قبل الحزب المعارض للرئيس، ما يجعل احتمال التمكن من عزل ترامب عبر بوابة الكونغرس المسيطر عليه من الحزب الجمهوري مستبعداً جدا.

المتوقع الآن هو أن ترخي الأزمة بظلالها على فترة حكم ترامب، خاصة بعدما يبدأ الخيط الأبيض بالظهور من الخيط الأسود في التحقيقات التي بدأها روبرت موللر (وهو شخصية موثوقة ومشهورة بالالتزام) بشأن التدخل الروسي، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تفاصيل وقضايا أخرى، أو شخصيات مقربة من الإدارة قد يطالها التحقيق. ويبقى السؤال المطروح: كيف يمكن أن تنعكس هذه الازمات الداخلية المتتابعة على السياسة الخارجية الأميركية؟ وهل نشهد بعدها انكفاءً يخلط الكثير من الأوراق أم يكون العكس هو الصحيح؟

اقرأ أيضاً : أمريكا: قطع العلاقات مع قطر لن يؤثر على محاربة الإرهاب

لقد كان ملفتا على هامش ما يجري، لقاءات نشرتها صحيفة لوس انجلس تايمز الاميركية مع بعض الكوميديين. قال أحدهم إن ترامب شكل مادة دسمة خلال فترة الانتخابات أضحكت الكثيرين، إلا أن الوضع مختلف الآن، عند ذكر اسمه يسكت مَن في القاعة. وقد أبدت إحدى زميلاته قلقها من الوجهة التي تسير فيها الولايات المتحدة، وتحدثت عن حالة من القلق والتناقض تمر بها رغم أنها من مؤيدي الحزب الجمهوري.

حالة القلق والتناقض عند الأميركيين قد تكون هي أصلا من أنتج الإدارة الحالية. قلق من ماذا؟ من ما يخبئه المستقبل من مخاطر على الحلم الأميركي وإمكانية تحقيقه في ظل عولمة لم تعد معها الامبراطورية الأميركية أكثر من شرطي في نظام تتحكم به قلة من البشر، تخطت مصالحها حدود الدول-الأمم. شعارات ترامب الانتخابية، والجمهور الذي التف حولها وأوصله الى سدة الرئاسة، تعكس طبيعة صراع تعيشه الامبراطورية التي كثرت الادبيات عن بداية انحدارها رغم عمرها القصير. إنه صراع بين العولمة-الجديدة والمتمردين عليها. صراع قد يترافق مع تخبطات تدفع الأميركيين الى التساؤل قريبا: «أي أميركا نريد؟».

السابق
لا تراخيص حمل أسلحة بعد اليوم
التالي
تفجيرات إيران واللعب بنار المذهبية