العيد الذي لم يعد لو يعود

هاني فحص

لو..-1-
لو أن الحاجة أم حسن زوجة الحاج محمود بهجة، استيقظت من نومتها الأبدية، وفاجأتنا في منزلنا فجراً يوم العيد، وقبيل ذهابي، أنا الشيخ إمام القرية حتى أواسط السبعينيات إلى المسجد حيث تركت الإمامة طوعاً، ولو بقيت لتركتها قسراً، منذ عقدين ونيف من السنين، ظناً مني عندما تركت، بأن العمل خارج المسجد أجدى، وعندما اكتشفت أن تقديري لم يكن صائباً، لحقني شيء من الندم، فقررت أن أعود إلى المسجد إماماً، فما استطعت أن أعود ولو مأموماً، لأن المسجد لم يعد فيه إلا بقايا مسجد، وأصبح أقرب إلى مكتب انتخابي (أعني سياسي).. أو أنه لم يسعني، لأن الإمامة أصبحت صناعة ولها محترفات وحِرفيون وحَرفيون، ينفذون ما يُملى عليهم ولا يخالفون..

اقرأ أيضاً: لبنان من إيران وجع الحرف

لو أن أم حسن، جاءت فجراً قبيل ذهابي متوضئاً متعطراً، لصلاة العيد إماماً، في مسجد ضيعتنا الحنـّان الأليف، المبني من حجارة ضيعتنا البيضاء والسمراء مقصبة، أو كما خُلِقت، والمبيَّض بطينها الأصفر المخلوط بتبنها الذهبي، والمحروس ظله وبئره المنحوتة في الصخر، بنخلة وعريشة، وغير المتمايز عن أفقر بيوتنا، لأنه بيت الله، بيت الجميع، البيت الجامع، لأن الفقراء هم الذين كانوا يبنونه، لا يمتلكونه، ليطردوا منه من شاؤوا، أثناء الصلاة أو قبلها..
لو أن أم حسن بهجة، فاجأتنا وبيدها سطل من (اللبا أو الشمندور على قولة أهل البقاع) أي حليب المواشي بُعيد الولادة، ولأيام محدودة، رائباً بعناية لا تعرفها إلا الفلاحة الأصيلة، والذي لا يباع وأخيراً صار يباع كما صار كل شيء يباع، بل يفرق على الأعزّ من الأرحام والجيران والأصدقاء، ومن الأعزة يكون شيخ الضيعة إذا بقي قريباً في معيشته من الناس، وإن كان هناك مشايخ يكرمهم الناس مهابة لا حباً، وإذعاناً لا طوعاً، أو خوفاً من العقاب المعنوي، الذي يظن البسطاء أنه ينزل من الله بواسطة الشيخ فيطلبون رضا الشيخ باللبا واللبن وبيض الدجاج وفراخ الحمام.
لو أنها فعلت، أي أم حسن بهجة رحمها الله، ومعذرة لهذه الاستطرادات التي تعلمتها من كل من أفضوا اليّ بحالهم، من حب أو مرض أو فقد عزيز، أب أو ابن أو منزل بالقصف أو العلة أو الفُجأة، وكنت أتضايق، منهم ومنهن خاصة، حتى وقعت في الاستطراد، ولم يهدأ لي بال، إلا عندما وجدت أعظم الروائيين يفعلون ذلك، يسردون ذاهبين إلىالأمام والخلف واليمين واليسار والأمس واليوم والأعلى والأسفل من معالم الصورة وأبعادها إلى امتدادات الحدث وظلاله وحوارات الأشخاص الداخلية (المونولوج)، فآمنت أن أمي وجارتها على حق، عندما تستذكر وتذكر عرسها بالتفصيل أثناء الحديث عن ولادة حفيدها. أو تفاصيل مرضها وحياة الطبيب الذي عالجها، وأعمار أولاده ولون عيونهم، وكيف تزوج من زوجته البولونية ثم طلقها..الخ.
وعليه، فلو أن أم حسن بهجة فعلت ذلك، أو أن أحداّ غيرها، فلاحة أخرى، فعلته، لعرفت وأقسمت يميناً أمام المتشكك أو المتشائم من حالنا، بأن العيد قد عاد، أو أنه لم يغب عنا ولا سنة، ولا رمضان، ولكننا نحن الذين غبنا.. ولشهدت بأن جيل أم حسن لم ينقرض، وإن كان من بقي من الفلاحات رفيقاتها، قد أحلْنَ على المعاش، وصرن يأكلن اللبنالرائب في علب الكارتون ويصرخن.. هذا ليس لبناً، هذه ليست حياة.. وأنا.. حتى أنا.. بل أولاً أنا.. الشيخ الإمام طالب العلم الديني، الرمز إلى حد ما، تغيرت كثيراً، فلم أعد أستسيغ، أنا، أو أولادي أو ضيوفي، طعم اللبا إلا قليلاً ومجاملة للماضي، لأن (الكريما) أيسر، وإن كانت مغشوشة كالأدوية، أو فاسدة كالأسماك المجلدة، أو الذمم المتبلدة، أو العقول أو القلوب الجامدة، أو المجلمِدة، أي (كجلمود صخر حطه السيل من علِ) كما قال امرؤ القيس، على أن من الأحجار ما هو حساًس، وهناك حجارة خضراء كالربيع، وهناك أحجار تسلّم على الأنبياء، تتأنسن كما أن هناك أناساً يتحجرون{قل كونوا حجارة أو حديداً} في مقابل الحجارة التي تدخر للحياة ماء {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} .
لقد تغيرتُ كثيراً.. انتقلت إلى المدينة ولكن المدينة لم تنتقل اليّ إلا شكلاً.. وقليلاً.. غادرت القرية ولم تغادرني القرية، غير أني لم أعد أعزم على مار في الطريق أو جار أن يتناول شيئاً من تين أو عنب اشتريته من الدكان، أو أرسلته لي أمي من الضيعة، ولو قبل نضجه، حتى لا يأتي عليه أولاد الجيران من دون أن أذوقه، وكأني أذوق فيه طعم أمي، أو طعم قلبها أو عينيها.. وهي فرحة وكأني أطعمها عسلاً أو أسقيها كأساً من ماء العين بارداً من دون تبريد.. من دون كهرباء.

اقرأ أيضاً: مشــروع شهـــادة

هل هذا حنين (نوستالجيا) إلى الماضي، بلى إنه حنين، يشتد عليّ في الأعياد، وفي مواسم التبغ والحنطة والسماق والزعتر، ومواعيد بناء أعشاش العصافير، ووصول الطيور المهاجرة (اللفاية) لا من أثيوبيا أو سيريلنكا كمصادر للفايات الخدمة، بل من بلاد الصقيع.. كالعضّيض والصندل.. والعتيق (الغبّور).. ولكن الحنين إلى الماضي ليس رحيلاً أو ارتحالاً إليه، إنه التجاء فرضي واضطراري، التجاء إلى ما كان وزال، بسبب أن ما هو كائن لا يكفي، لا يسند، ولا يُطمْئن.. حنين، شوق، إلى نوع من المحال، إلى ذكرى وقائع نزينها ونمسح بشفاهنا ما فيها من سلبيات، لأن المشهد والواقع، والغد المفترض أو المنتظر، مخيف.. ودميم حتى لو أن الفتنة الجارية لم تعم كل شيء وكل مكان وكل دين وكل مذهب وكل بيت، وكل ذات من ذواتنا صارت اثنتين وقد تصبح أكثر.. حنين يقول عنا ولنا بأننا وقعنا في مفارقة قاتلة.. لم نصطحب قلوبنا الواسعة من الماضي من (القرية) ولم نبنِ عقولنا الراجحة في المدينة.. لم نمدن القرية ولا ريّفنا المدينة ولا أدري كيف ولماذا؟ بل أخربناهما معاً، وخربنا.. ولم يكن الخراب جميلاً على ما أحب أدونيس.. بل كان خراباً لكل جميل، من الورد والحبق إلى الدين والشعر، اللذين يمانعان ويعاندان.. وقد يبقيان، لا بد أن يبقيا، بمعناهما الآخر، الذي لم ندركه، حتى لو أصبح الخراب أخرب.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
وزير خارجية قطر: لا إجراءات تصعيدية.. ونسعى للحوار
التالي
توقيف لبناني كان يسعي لتنفيذ عملية انتحارية!