قصة حيوانين

لم يكن في سوريا مدينة ملاهٍ، ولا قرية ملاهٍ، واللعب يجري بكرة قدم مربعة، لا ربح فيها، والخسارة للجميع!

ولم يكن في سوريا حديقة حيوان!

كان فيها فقط جبهة وطنية تقدمية، ومجلس شعب نستعيض به عن السيرك وفقراته الساحرة.

يقال: إن آخر ذئب شوهد في سوريا كان في آواخر القرن الثامن عشر، لكني رأيت واحداً في 1980، على حدود العراق عندما عملت سائقا لجرار زراعي، فكان حالي حال الفرزدق: وَأطْلَسَ عَسّالٍ، وَما كانَ صَاحباً، دَعَوْتُ بِنَارِي مَوْهِناً فَأتَاني، فَلَمّا دَنَا قُلتُ: ادْنُ دونَكَ، إنّني، وَإيّاكَ في القتل لمُعتَرِكَانِ.

لم يكن ثعلباً، فالوقت كان ليلاً طامساً حالك الظلام، والثعلب سريع الحركة، تومض عيناه ثم تنطفئان، وليس ضبعاً، فالضبع عيناه كبيرتان.  كنت خائفاً، لكن ليس كخوفي في فرع أمن، ففي فرع الأمن ليس للمطلوب حق الدفاع عن نفسه، وكنت مسلحاً بمفتاح كبير له اسم صواريخ روسيا: إس 50.  في معتقلات الأسد، السبيل الوحيد للنجاة هو الاستذلال، وقد يزداد الوحش شهوة للدم.

الحيوان- أليفاً أو وحشياً- مقياس جيد لإنسانية الإنسان. دخلت امرأة النار في هرة، ودخل حيوان في شعب حبسه وحرمه من خشاش الأرض، في ثقب التاريخ الأسود ،ثم أحرقه ببراميل وفوسفور الجوع. قال الصديق فرج بيرقدار عندما زار إسطنبول ورأى رقَّة أهلها مع الكلاب والهررة، حيث لهم يوم للطيور يشبه يوم الحركة التصحيحية في سوريا: هذا البلد بخير.

الحيوان مقياس جيد لقياس بشرية الإنسان، يمكن الحكم على درجة الحضارة في البلد بحيواناتها إن تعذّر قياسها بالبشر.

 كنت أطلب من ابنتي الصغيرة أن تغلق الباب وراءها في الشتاء، درءاً لذئاب البرد، فأقول بغضب مكتوم بسبب غفلتها أن تغلق “الزفت” وراءها، فتنسى، إلى أن قالت: إن مسكة الزفت مكسورة. وكنت أخطف جهاز التحكم من يدها وهي تتفرج على أفلام الكرتون، فأقلب القناة إلى الأخبار، فقد جاء دوري لمشاهدة السيرك، فتشتكي لأمها، وتقول: أبي لا يشبع من مشاهدة السيرك؟ مع أن السيرك فيه نمرة وحيدة: الرئيس يستقبل والرئيس يودع، وهي فقرة تجاوزتها كل سيركات العالم. ما الأعجوبة في أن يستقبل الرئيس رئيساً ويودعه كل يوم؟

مات سحر السيرك من زمان.

لم يكن في سوريا حديقة حيوان..

أخذت ابنتي لزيارة بستان أحد الأصدقاء في الموسم، فوجدتْ الأشجار مزينة بالثمار، فاستغربتْ أن يقدر صاحبي على تعليق كل تلك الثمار على الأشجار، فكان لابد لي من اصطحابها معي إلى حديقة الحيوان الوحيدة في البلد، وهي سوق الطيور، وليس فيها سوى الدواجن والأرانب. والحق، كان في سورية حيوانان، وليس حيواناً واحداً، كما يحتفل التويتر ويصفق الفيسبوك اليوم شامتاً، كان الرئيس يدعو ضيوفه الرؤساء، ويخرجون إلى السدة الرئاسية، ويطلب من المروضين إخراج الحيوان الكبير الذي اسمه الشعب ليؤدي نمرة النمور في اليوم العاشر، أمام الضيف، هكذا يفعل الآباء عادة، يتباهون أمام الضيوف بمهارات الأبناء، أو بقدرتهم على ترويض الوحوش.

لنعترف أن الأسد روّض الشعب السوري، الذي لم يروّضه ملك من قبل. كتب ممدوح عدوان كتابه “حيونة الإنسان”، وهي نسخة سورية من كتاب طبائع الاستبداد، وهو لكاتب سوري أيضاً، كتبه قبل قرن بمزاح مسلم عربي. وفي الكتاب يقول عدوان إنه ارتاع عندما قرأ عن الرياضيين الذين سقطت طائرتهم في جبال الأنديز، فبعد أن انتهى ما لديهم من طعامهم وهم محاصرون في تلك الجبال الجليدية وسط العواصف الثلجية نصحهم أحد زملائهم – وهو طالب طب – أن يتناولوا البروتين كي يتمكنوا من الحياة، وليس هناك مصدر للبروتين سوى جثث زملائهم وأهلهم، الذين قتلوا في الحادث، وكان عليهم الإسراع بنبش الجثث من القبور حتى لا يدفنها الثلج المتراكم. ويقول الطيار الذي نجح في الوصول إليهم في كتاب اسمه “أحياء” إنه حين أطل على مكان وجود الناجين، رأى عظاما آدمية متناثرة على مدِّ النظر، وكأن قطيعاً من الوحوش قد داهم تجمعاً بشرياً!

وبهذا التعود اليومي للمذبحة السورية المستمرة، طرأ أمر عندما قال ذئب البيت الأبيض ما قاله، وهو يرى الحيوان وقد نسي أداء النمرة، فصاح، وهي صيحة ستدخل في تاريخه، وكأنها صيحة غاليليو: “الأسد حيوان”، لكنها نصف صيحة، لأنها تغضي عن كل قتل ليس بالكيماوي.

الشعب السوري ليس في بلده حديقة حيوان، ولا سيرك، يفتح التلفزيون لمشاهدة سيرك نشرة الأخبار، إلى أن انقرض السيرك من العالم كله. لم يعد ترويض الفيلة والأسود والقرود أمراً ذا شأن، ثمة حيوانان يتنافسان في ترويض بعضهما: الرئيس والشعب، والصراع في سوريا يكاد يكون صراع وحوش.

يقول المناطقة: الإنسان حيوان ناطق، وفي بعض الأقوال حيوان فاسق.

إنّ شعار “أنا إنسان ماني حيوان”، يقول إنها ثورة تعلّم النطق من جديد، بعد أن عاد السوري أعجم. وكان صديقي، وهو مدرس لسانيات في الجامعة، يشكو لي أن إبنته لم ترَ في سنوات طفولتها سوى أفلام نقار الخشب “ودي ود باكر”، ويكاد يهتف: ألا تستطيع الحيوانات المشرفة على التلفزيون شراء أفلام جديدة.

إقرأ أيضاً: بشار متَّصِل… غير منْفَصِل!

كان نقار الخشب يحفر بمنقاره جذوع الأشجار، وكان منقار الصقر السوري قد تكسّر على الصخور، وأوهى قرنه الوعل. ها هو النظام يقوم بمصالحة وطنية لا يتخيلها عقل، ويقوم بمبادلة كفريا والفوعة ببقين ومضايا، وهي أجمل مناطق سوريا، وكلها غالية على أهلها، وكل الناس أولى بقراهم ومدنهم، شيعة أو سنّة..

 ليست قصة مدينتين، كأنما هي قصة حيوانين: ذئب فرد، وشعب استذأب لحريته.

إن المصالحة الحقيقية التي يجب أن تتم، هي في تسليم الحيوان إلى حدائق الحيوان في العالم، حتى يخرج الشعب السوري من قفصه تحت الأرض إلى سطحها، قبل أن ينقرض من سعير النار، إن لم يكن من حامض القهر.

كنت أتجه في تلك الليلة بعد أن انتهى زاد آلتي من الزيت إلى نور بعيد، وأرتدي معطفاً سميكاً، وكان الجرار قديماً، وكنت خائفاً، وكان الذئب أرحم من حكومتي.

إقرأ أيضاً: دخول «مضايا والزبداني» على خط إخلاء حلب

عهدي بالبشر تروّض الحيوانات، فإذا بالحيوانات تروض البشر، وكنت أقول في سري ما قاله الفرزدق:

لَعَمْرِي لَقَدْ رَقّقْتِني قَبلَ رِقّتي

وَأشَعَلْتِ فيّ الشّيبَ قَبلَ زَمَانيَ

وهو ما عين قاله العجوز التونسي: هرمنا.

أقول، وقد نهش الذئب من لحمنا، ولوّثه في ليلة اكتمال القمر بدراً: صرنا ذئاباً.

 الفرق بين تونس وسوريا هو الفرق بين الهرم والاستذآب، أو لعلها معركة بدر العظمى.. مقلوبةً، هذه المرة.

السابق
الـmtv تثير جدلاً وتوقف عرض فيلم «يسوع»!
التالي
المفكرة ليوم الاثنين 17 نيسان 2017