الصراع السري في إيران: من يخلف خامنئي؟

الفيلسوف الألماني كارل ماركس، رصد في أحد تجلياته حالة المعارضين السياسيين من خارج البلاد، المهجرين، والمنفيين طوعًا وكرهًا، ورؤيتهم لدواخل بلدانهم المضطربة بشيء من التهويل، بدافع اللاوعي الخاطئ المترسخ لديهم بقرب موعد الظفر بأعدائهم، وقرب موعد الثورة. فهم يرون أصغر علامات الاستياء، كالإضرابات والاحتجاجات الغاضبة على أنها دليل غير قابل للجدل، على الطوفان القادم.

إقرأ أيضا: وزير الدفاع الأميركي: إيران «أكبر دولة راعية للإرهاب»

هكذا كان حال المعارضين، من اليساريين والقوميين والليبراليين، من أبناء الجمهورية الإيرانية، بعدما أمسك الخميني بتلابيب البلاد، بعد ثورة فبراير(شباط) 1979، إلا أن الرياح جاءت بما لا يشتهون، وأعطت الحرب العراقية قبلة الحياة لنظام ديني بدا للوهلة الأولى غير قابل للصمود في عصر الحداثة، وتقوّت أجهزة الدولة الجديدة على مدار ثماني سنوات، كانت فيها الحرب على أشدها، وتكبد الإيرانيون فيها أشد الخسائر.

لكن بانتهاء الحرب أصبح آية الله الخميني ممسكًا بقبضته الحديدية أطراف الجمهورية ومراكز قواها، وقد عُرف العام الأخير للحرب 1988 بعام الدم، إذ أُعدم بأمر الخميني أكثر من 2800 مسجون، اعتبرتهم منظمة العفو الدولية سجناء ضمير، ولأن الجمهورية تحولت إلى نهر من الدم الغزير المُراق، أعلن آية الله حسين منتظري، المُعد سلفًا لخلافة آية الله الخميني، عن عدم موافقته لهذه الإعدامات؛ الأمر الذي جعل آية الله الخميني يُقدم على إقالته في مارس (آذار) 1989، ليذهب الخميني في يونيو (حزيران) إلى بارئه، تاركًا إرث الجمهورية الإسلامية الثقيل دون أن يحدد خليفةً له.

هل تحولت الجمهورية الإسلامية إلى ملكية دستورية؟

منح الدستور الذي أقرّته الجمهورية الإيرانية في استفتاء 1979 طيفًا واسعًا من السلطات للقائد الأعلى، فبات بوسعه تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية، بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام، كذلك بإمكانه الإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام، وإصدار الأمر بالاستفتاء العام، والقيادة العامة للقوات المسلحة، وإعلان الحرب والسلام والنفير العام.

للقائد الأعلى حق تعيين، وعزل، وقبول استقالة كل من: (فقهاء مجلس صيانة الدستور، أعلى مسؤول في السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في جمهورية إيران الإسلامية، ورئيس أركان القيادة المشتركة، والقائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية، والقيادات العليا للقوات المسلحة، وقوى الأمن الداخلي.

منوط به أيضًا حل الخلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاثة، وحل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام، وإمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب.

كما يحق له أيضًا عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، وذلك بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية، أو بعد رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته السياسية، وله حق العفو أو التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في إطار الموازين الإسلامية، بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية، والحقيقة أن هذه الصلاحيات لا تُمنح إلا لأصحاب السمو في الملكيات الدستورية.

ينص الدستور في المادة التاسعة بعد المائة، على الشروط الواجب توافرها في الأفراد المؤهلين لشغل منصب القائد، أو المرشد الأعلى، وهي الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في كافة أبواب الفقه، والعدالة والتقوى، والرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والإدارية.

وكان الدستور بنسخته الأولى يلزم الخبراء باختيار رجل دين بدرجة آية الله العظمى، وهي الدرجة العلمية التي لم يكن يحزها السيد خامنئي حال وفاة الخميني، إلا أن الخبراء وبإيعاز من الراحل حديثًا حجة الإسلام رفسنجاني قدموا خامنئي للمنصب.

يقول د.علي نوري زادة، المحلل السياسي الإيراني، ورئيس مركز الدراسات الإيرانية العربية في لندن، لـ«الشرق الأوسط»: إن «رفسنجاني صنع خامنئي»، ويوضح فكرته قائلًا إن: «الجميع يعلم أن خامنئي لم يكن مؤهلاً حينها لأن يصبح قائدًا للثورة بوجود عدد من كبار آيات الله، لكن رفسنجاني ذهب إلى مجلس الخبراء وخاطب الحضور قائلاً: سألت الخميني في أواخر أيامه ماذا نفعل بعد رحيلك؟ فأجابني: لا تخافوا فخامنئي بينكم! فحصل الأخير على أصوات 54 عضوًا من أصل 80 من أصوات مجلس الخبراء، وهكذا أصبح مرشدًا أعلى».

أن يخلف خامنئي عضوٌ في لجنة الموت!

نشر أحمد منتظري، نجل رجل الدين الراحل، آية الله حسين علي منتظري، وهو رجل دين أيضًا، تسجيلًا صوتيًّا قديمًا لوالده، وهو يجادل ما عُرفت بـ«لجنة الموت»، التي تولت أمر إعدام السجناء السياسيين عام 1988، ويُظهر التسجيل، الأعضاء في اللجنة وهم: مصطفى بور محمدي (وزير العدل الحالي في إدارة الرئيس روحاني)، ومرتضى إشراقي، وحسين علي نيّري (نائب رئيس المحكمة العليا الإيراني)، وإبراهيم رئيسي، الذي كان حتى وقتٍ قريبٍ نائبًا لرئيس السلطة القضائية، وعضوًا بمجلس خبراء القيادة.

أحيل للمحاكمة أحمد منتظري، لاتهامه بالعمل ضد الأمن القومي، والتشهير بالنظام، ونشر تسجيل سري، وحُكم عليه بالسجن 21 عامًا، وتجريده من امتيازاته الدينية، وارتأت المحكمة تخفيف الحُكم عليه، لكبر سنه (60 عامًا) ولعدم وجود سجل جنائي له، وإكرامًا كذلك لشقيقه الذي راح ضحية إحدى الهجمات التي شنها متمردون ضد الثورة عام 1981.

إلى هنا يبدو الأمر عاديًا في ظل صراع الأجنحة الداخلية بين التيارات الإيرانية، لكن ما لا يبدو عاديًا أن يتردد اسم أحد أعضاء اللجنة خليفة للسيد خامنئي، وهو السيد إبراهيم رئيسي، فمن هو؟

ليس من شك أن وفاة حجة الإسلام رفسنجاني المفاجأة، رغم كونه مستبعدًا من خلافة خامنئي، أعادت للأذهان قضية الخلافة على منصب المرشد الأعلى، وكان النقاش قد أثير قبل عامين، مع الإعلان عن خضوع السيد خامنئي لعملية جراحية، وتتابع التقارير الإخبارية عن تدهور حالته الصحية، ومع عودة الموضوع للواجهة هذه المرة، يركز الإعلام الإيراني على بروز نجم السيد إبراهيم رئيسي، ما يجعله متصدرًا للاحتمالات، وهو ما زعمته صحف عالمية مثل الجارديان، وهافنجتون بوست (بنسختها الإنجليزية).

وتنقل الجارديان البريطانية، عن ناشط إيراني في المنفى، قوله إن رئيسي بالرغم من أنه وقت الثورة كان بالكاد يبلغ سن الرشد، إلا أنه وفي فترة قصيرة استطاع التدرج سريعًا داخل البيت الشيعي، حتى كان قاضيًا ضمن أربعة قضاة تحملوا عبء الإعدامات الشهيرة بحق المعارضين في عام 1988.

عيّنه خامنئي في مارس (آذار) الماضي، على رأس العتبة الرضوية المقدسة، إحدى أكبر مؤسسات الدولة الموازية في إيران، ونقصد هنا بالدولة الموازية هذه المؤسسات غير الحكومية التي تأسست على يد رجال الدين بعد الثورة، وتقدر أصول هذه المؤسسة الخيرية بعشرات المليارات من الدولارات.

وتحاول وسائل الإعلام المحافظة مؤخرًا إبرازه وترقيته على كلا الهرمين السياسي والديني، فأطلقوا عليه مجازًا (آية الله)، وعلقوا على لقائه الرئيس روحاني بعبارة مبالِغة في تعظيم الأول وتضئيل الثاني؛ (لقاء بين الرئيس ورئيس العتبة الرضوية)، وعلى هذا النحو بات الحديث عنه في الصحف الإيرانية المحسوبة على تيار التشدد.

عمل رئيسي في منصب المدَّعى العام بطهران في الفترة بين 1989 و1994، وترأس المنظمة الوطنية للتفتيش (المنوطة بمراقبة كافة الأجهزة الحكومية) من 1994- 2004. وكان النائب الأول لرئيس السلطة القضائية الإيرانية من 2004 و2014، وتم تعيينه في منصب المدَّعى العام الإيراني عام 2014. ومنذ 2012، يعمل رئيسي كمدعٍ عام في المحكمة الخاصة برجال الدين (وهي الأداة المخصصة للسيطرة على رجال الدين المعارضين)، وتظهر المناصب التي تدرج بها رئيسي أهميته داخل بُنية النظام، الراغب في تقويض المعارضين من داخل، وخارج مؤسسات رجال الدين.

الطريق مفروشٌ بالشوك

صناعة الخلفاء لم تكن يومًا بالعمل الهيّن، وهو دائمًا ما تحاول التجربة إثباته. قبل عام ونيّف برزت على الواجهة أسماءٌ قيل إنها مرشحةٌ لخلافة خامنئي، لكنها سرعان ما اندثرت، أو على وجه الدقة سرعان ما تم اغتيالها، وتقويض المساعي الحثيثة لترقيتها.

حسن الخميني

الحفيد الأبرز لمؤسس الجمهورية الإسلامية، والابن الأكبر لولده أحمد، الذي دارت شكوكٌ حول وفاته، لا سيما وأنها جاءت بعد انتقاده للمرشد الحالي خامنئي، واتهم حينها أتباعُه المخابرات الإيرانية بتصفيته.

يمتاز حسن عن غيره بالإرث العائلي، فبالإضافة لكونه حفيد الإمام الراحل مؤسس الجمهورية الإسلامية، هو كذلك ابن فاطمة الطبطبائي ابنة آية الله سلطاني، كما يرتبط حسن بصلة قرابة مع عائلة الإمام موسى الصدر، وزوجته حفيدة آية الله العظمى الأصفهاني.

يُعتبر الخميني الشاب صناعة رفسنجاني الراحل، لطالما ظهر بجواره، ولعب الأدوار السياسية ذاتها جنبًا إلى جنب مع رفسنجاني، وله آراؤه المعتدلة، لكن ما لبث نجمه أن برز حتى نصحه خامنئي بعدم الإساءة لسمعة جده الإمام، مؤسس الجمهورية الإيرانية الإسلامية.

ورغم أن خلافته لخامنئي في ظل الأوضاع الحالية خيارٌ حالم لمريدي تيار الاعتدال الإيراني، إلا أنه مع رحيل رفسنجاني يطرح نفسه بديلًا، لقيادة تيار الاعتدال، وهو ما يجعل حظوظه للعب دور في مستقبل إيران أمرًا ممكنًا إذا ما تغيرت المعادلة الحالية.

مجتبى خامنئي

ثاني أبناء الإمام، وأكثرهم نفوذًا في عالم المال والسياسة، ويُنظر إليه على أنه وريث الإمام في الولاية، وتشير وثيقة مسربة على ويكيليكس، أن السيد خامنئي يقوم بتحضير مجتبى خليفةً له على عرش إيران، ويحظى مجتبى كذلك بعلاقات وطيدة مع رجالات الحرس الثوري في إيران، وبحسب ما نشره موقع الجزيرة فإن مجتبى أبعد 155 رجلاً من رجال الحرس الثوري لتصويتهم لرفسنجاني في انتخابات الرئاسة.

وتأتي هذه الأخبار في إطار ما يعرف عن مجتبى بتأسيسه لشبكة علاقات قوية داخل إيران، ربما تمكنه من خلافة والده الإمام على عرش إيران.

لكن بالطبع يقلل من احتمالات ترقيته لدرجة الخلافة، الأحاديث الشائعة عن فساد مالي تورط فيه، وكذلك الحديث الغاضب عن التوريث، وتقويض مشروع الجمهورية الإيرانية.

صادق لاريجاني

القابع على رأس السلطة القضائية من عام 2009، وقد اختاره خامنئي لهذا المنصب بعد أن كان عضوًا في مجلس صيانة الدستور لـ9 أعوام (2001-2009).

ينتمي صادق لفئة المحافظين، وينتمي لعائلة ذات ثقل في الحياة السياسية في إيران، وبينما يجلس هو على رأس السلطة القضائية، يجلس أخوه الأكبر علِي على رأس السلطة التشريعية، لكن ما يقوض مشروعه للخلافة أنه لا يرقى لدرجة السادة في السلم الشيعي، كما أنه متورطٌ ذكره في قضايا فساد مالي.

محمود هاشمي الشاهرودي

رئيس السلطة القضائية السابق، تردد ذكره كثيرًا لكونه ذا صلة وثيقة بالسيد خامنئي، ولكونه أدار ملف المعارضين إبان احتجاجات الحركة الخضراء بالحزم والحسم، ولكونه يحمل درجة علمية رفيعة، لا يحملها الكثيرون غيره من رجال الدين والسياسة في إيران، لكن كذلك تردد ذكره مع قضايا فساد مالي، وقد يعيق ذلك طريقه للخلافة.

ختامًا، تجدر الإشارة لاختلاف الظرف التاريخي الذي رحل فيه الإمام المؤسس عن الظرف الذي سيرحل فيه خامنئي، فبينما ترك الخميني الجمهورية في أيدي رجال الدين من المدنيين، سيتركها خامنئي في الأغلب لشبكات المصالح السياسية والاقتصادية، وفي ظرف يفرض الحرس الثوري فيه نفسه حاميًا وشريكًا للسلطة التنفيذية في إيران، ولذلك سيحرص خامنئي على ترتيب أمر خلافته في حياته، لكن في مشاهد مشابهة في بلدان مجاورة لإيران، يكون اختيار الخليفة أمرًا في غاية الصعوبة، يتنافس عليه كثيرون، وتكون الاغتيالات السياسية والمعنوية أكثر عددًا من المرشحين، وغالبًا ما تأتي اللحظات الأخيرة برجل قابع في الظل يراقب ولا يتقدم.

السابق
عون يطرح تأمين أماكن في سوريا آمنة لاستيعاب اللاجئين
التالي
تغريدات مخيفة لمنفذ هجوم «اللوفر» على «تويتر»