المطران إيلاريون كبوجي أعظم سجناء العصر

نشكر صديق الموقع يونس زلزلي على تزويدنا بنص للشاعر الكبير الراحل نزار قباني نشرته مجلة الحوادث اللبنانية 18/11/1977 وذلك بعد خروج مطران القضية الفلسطينية إيلاريون كبوجي من السجن إلى المنفى.

خرج بعد ثلاث سنوات من السّجن, بنصف جسده, ونصف عافيته, ولكنّه خرج بضميره العربيّ كاملًا.

مشى إلى الطّائرة كسيفٍ دمشقيٍّ مرصَّع بأسماء الله الحسنى, وتحت سُلَّم الطّائرة كانت تبكي كلّ أشجار فلسطين. كان شاحبًا من الخارج, ولكنّه من الدّاخل كان مضيئًا كقمرٍ في البادية.
نقص وزنه 35 كيلوغراما, فازداد وزن الكرامة العربيّة مئات الأطنان. سرقوا نصف دمه, لكنّ النّصف الآخر تحوّل إلى بحرٍ من الياقوت والنّار تسافر عليه كلّ الأجيال العربيّة.
مارسوا عليه كلّ أنواع القهر, وحاولوا أن يقنعوه أن يبقى في مملكة الله, ويتخلّى عن مملكة الأرض, لكنّه أصرّ أن يكون خادمًا لله على أرض القدس, وخادمًا للقدس في مملكة الله.
لم يتنازل عن شيء. ولم يقدّم فعل النّدامة لأحد. ولم يعتذر لأنّه أحبّ القدس. فالحبّ الكبير لا يحترف الاعتذار.
دخل إلى السّجن أميرًا من أمراء الكنيسة, وخرج منها ملكًا علينا جميعًا…
كان يعتبر نفسه تلميذًا للسّيّد المسيح الفدائيّ الأوّل..وما من تلميذٍ أحسن من معلّمه..
************************
إسمه إيلاريون كبوجي.
وهو أعظم سجناء العصر.
فقد استطاع هذا السّجين غير العادي, أن يعطي زنزانته الضّيّقة بعدًا غير عادي, ويجعلها محطّة للتّاريخ, ومرفأً بحريًّا يزوّد المسافرين بالماء والخبز والحرّيّة.
حرّاس السّجن الإسرائيليّون كانوا لا يعرفون كيف يروّضون هذا الرّجل, وكيف يكسرون مقاومته, ويزعزعون يقينه, ويلغون(ذاكرته العربيّة). فالذّاكرة العربيّة سلاحٌ سرّيّ تصادره إسرائيل حيثما وُجِد.
ولكنّ الّذي حدث أنّ الإسرائيليين كسروا كلّ شيء في جسد المطران كبّوجي إلّا ذاكرته…
ففي حين كان هو يتمدّد على سريره الحديديّ داخل الزّنزانة, كانت ذاكرته تطير كلّ ليل كالسّنونو فوق المدن العربيّة النّائمة, لتقرع النّواقيس, وتضيء المآذن, وتعلن مقدم الفجر…
وفي حين تضيق الزّنزانات يومًا بعد يوم على من فيها, كانت زنزانة المطران كبّوجي تكبر..وتكبر..وتكبر..حتّى أصبحت ساحة من ساحات التّحرير, وعاصمة للغاضبين, وجامعة يتخرّج منها كلّ عام ألوف الثّوّار والمناضلين..
************************
بعد ثلاث سنين من احتجازه في الظّلام, بقيت شمس فلسطين في عينيه, وبقي قلبه يضرب في صدره كناقوس في أحد أديرة النّاصرة.
قالوا له وهم يفتحون له باب سجن الرّملة:
أنت حرّ يا كبّوجي..فارحل عن فلسطين ولا تعد إليها مرّة أخرى.
لم يرقص فرحًا كسائر المساجين, ولم يقتنع أنّه أصبح طليقًا.
فلقد كان يعلم أنّه(سيخرج من سجن إلى سجن أكبر), وأنّ الحرّيّة خارج فلسطين ليست حرّيّة, وأنّ المنفى هو التّعبير المهذّب لكلمة موت..
على أرض مطار اللد, شعر كبّوجي أنّ الصّفقة كانت ظالمة. فعندما يعطونك الحرّيّة, ويأخذون منك وطنًا..فمعنى ذلك أنّهم أخذوا منك كلّ شيء..
لذلك كان المطران كبّوجي متردّدًا في قبول حرّيّته, وخائفًا منها..
ذلك أنّ الحرّيّة عنده لم تكن مطلبًا شخصيًّا, بقدر ما كانت مطلب كلّ أشجار البرتقال, والزّيتون, والأنهار, والعصافير, وعيون الأطفال, وسنابل القمح المعتقلة منذ العام 1948 في قارورة الإرهاب الإسرائيليّ.
لم يكن المطران كبّوجي مهتمًّا بتحرير جسده, بقدر ما كان مهتمًّا بتحرير جسد الأرض, ولم يكن يعنيه أن يتمشّى تحت أشجار(فيللا بورغيزي) في روما, في حين لا تزال أشجار بيسان واقعة في الأسر..
كانت القدس زوجة المطران كبّوجي وحبيبته, وكان يتمنّى أن يموت فيها كما تموت حبّة الحنطة في الأرض لتساعد على ولادة ألوف السّنابل. فالموت الفردي لا أهمّيّة له إذا كان سيؤدّي إلى بعث أمّة وولادة وطن..
لذلك وقف أمام الطّائرة المسافرة إلى روما, موزَّع النّفس, زائغ العينين, مشَوَّش الأحاسيس..
إنّه أوّل سجين في العالم يقف يتيمًا أمام حرّيّته.
كانت محرّكات الطّائرة تدعوه إلى السّفر, وصوت الأرض يدعوه إلى البقاء. كانت الطّائرة تأخذ كلّما اقترب منها شكل المنفى, وكانت الأرض تأخذ كلّما التصق بها شكل الرّحم..
وبين المنفى وبين الرّحم, لم يجد إيلاريون كبّوجي, ليتخلّص من صراعه الدّاخليّ, سوى أن يفلت يديه من أيدي حرّاسه, وينحني على أرض فلسطين, ليرسم عليها القبلة الأخيرة..
******************
كان في سجنه عربيًّا..
بل كان أكثر عروبة من كلّ العرب الطّلقاء..
ولم تكن توجعه جدران السّجن, بقدر ما كانت توجعه جدران الكراهيّة الّتي أقامها العرب في وجه العرب..
ولم يكن يشتكي من ظلم الإسرائيليين وساديّتهم, بقدر ما كان يشتكي من ظلم العرب لأنفسهم, ومن ساديّتهم في التّعامل بعضهم مع بعض.
كان المطران كبّوجي يعيش في سجنين. سجن الحديد والاسمنت والأسلاك الشّائكة, وهو السّجن الأخفّ وطأة, وسجن التّناقضات العربيّة, وهو السّجن الأكثر قسوة على نفسه.
السّجن الإسرائيلي, مثل كلّ سجون العالم سيشيخ..ويتساقط..ويذهب إلى التّقاعد..
ولكن من ينقذ المطران كبّوجي من سجن الكراهيّة العربيّ الّذي لا يشيخ..ولا يتقاعد؟ لقد كان المطران كبوجي سجيننا نحن.. لقد حبسناه في سجوننا الإقليميّة, والعائليّة, والقُطْرِيّة, ولم نسمح له أن يرى شمس الوحدة ولا قمرها.
طوال ثلاث سنين, كان إيلاريون كبوجي يصلّي من وراء قضبان سجنه من أجلنا, ويسأل الله أن يُنهي عصر المراهقة العربيّ, ولكنّنا لم نكترث لصلواته..وبقينا مراهقين..
طوال ثلاث سنين, وهو ينادينا فلا نسمع..
ويعلّمنا أبجديّة المحبّة فلا نفهم..
ويدلّنا إلى طريق الوحدة, فنسلك طريق الانفصال.
*****************
بعد وصول المطران كبوجي إلى مطار روما..
ركض العرب إليه..هذا يُقَبِّلُ يديه..والثّاني يحمل إليه سلّة ورد..والثّالث يحمل إليه رسالة خاصّة من رئيس دولة عربيّة..والرّابع يمنحه وسامًا رفيعًا من رتبة فارس..والخامس يريه مجموعة الطّوابع التّذكاريّة الّتي صدرت تقديرًا لشجاعته وصموده.
أيّها السّادة:
إنّ المطران كبوجي لا يريد ورودكم, ولا أوسمتكم, ولا طوابعكم.
كلّ ما يريده منكم أن تعودوا إلى المحبّة..
فبها وحدها تعود القدس إليكم..
وبها وحدها تعود إلى المطران كبّوجي حرّيته الحقيقيّة.

 

إقرأ أيضاً: رحل مطران القدس كبوجي الذي سجنته اسرائيل وأحبّه الفلسطينيون

السابق
مراسل الممانعة يعلق على جريمة اسطنبول: يصفون من قتل في ملهى ليلي بالشهيد!
التالي
جرائم الشرف في المنظور الشرعي