حلب وعودة «ألم نَقُل لكم؟»

من ركام حلب ومأساة أهلها، وتقدّم تحالف بشار ومرتزقته بقيادة روسية في الأحياء الشرقية منها، وتراجع معنويات السوريين التائقين إلى التخلّص من البربرية… يطلع علينا الجهابذة، كل جهبذ “أذكى” من الآخر، ليعيدوا على السوريين الدرس الذي لم يستمعوا إليه في بداية ثورتهم؛ مع أنهم كرروه مراراً، وأنذروا… ماذا قال أولئك الفطاحل ما يستحق الآن العودة إليه بحذافيره؟ خصوصا بعد “هزيمة” حلب؟  ما هي تلك النوادر من الأقوال، التي لم يصغَ إليها السوريون منذ البداية، فأدّت إلى ما أدّت من هزيمة وخراب؟ إليك عيّنة منها: لا حركة ثورية بلا نظرية ثورية، وبلا تنظيم ثوري، وبلا قيادات ثورية تتماهى معها الجموع لتشكيل “خط الجماهير”. تلك هي الجملة التي يردِّدها، بصيغ لا تختلف عن بعضها، كبار سدَنة المعبد الثوري التقليدي، أصحاب الدروس الغالية في كيفية إنجاح الثورات. وقد إختارت غالبيتهم الثورات الروسية والإيرانية والصينية، ودعوا إلى التعلّم منها، وبخشوع “ثوري”، لكي يخلِّصوا الثورة السورية من براثنها. وإلا فقد “أعذر من أنذر!”.

أولئك المتَفلْسفين الذين وضعوا التاريخ الخشَبي كبوصلة لأفكارهم عن الثورة السورية، يتصوّرون ان التاريخ هذا يكرّر نفسه دائماً ضمن دائرة مغلقة واحدة، تخضع لقانون واحد، تتبع رسماً بيانياً واحداً، وتفضي إلى النصر المحتم الواحد. الثورات عندهم كلها قائمة على إحترام ثلاثية النظرية والتنظيم والقيادة الثوريين. ولا فرق عندهم بين ثورة وأخرى، بين مآل وآخر. عندهم إن الثورة الإيرانية التي تصبّ على السوريين نار مرتزقتها المذهبية، أو الروسية التي يرمي أحفادها القنابل الحارقة المحْكمة عليهم، أو الصينية الماوية التي تترقّب لحظة إنقضاضها على الجميع بعد أن تخور قوى صديقة منافسة لها الخ… عندهم، جميعها ثورات مرجعية، اخترعت إنسانية مختلفة… إذا كان المتَفلْسفون محقّين بشيء، فهو تعلم دروس هذه الثورات من زاوية عيوبها وإنحرافاتها التي أفضت إلى تعاسة شعوبها، وإرتباط سعادتهم بقوة صواريخ حكوماتهم التي تعيد لها مجداً قومياً غابراً؛ مجدٌ مغمّس بدماء أبرياء قمالوا عنهم إرهابيين.

ثم كيف لا ينكبّ السوريون الآن على “دراسة” تلك الثورات واستلهام تجاربها؟ يعودون إلى قراءة الكتب؟ وأي كتب؟ هل تكون الكتب التي “ركّبت” الثلاثي ” المقدس، النظرية والتنظيم والقيادة الناجحة الناجزة التي لا غُبار عليها؟ هل تكون الكتب التي صيغت على ضوء إنتصار هذه الثلاثية، فأهدت شعوب العالم كراساً مفبْركاً مفيداً حول كيفية إستفادتها من تجاربها الناجحة الرائدة؟ بعدما حوّلت نجاحها إلى مجرد الإستيلاء على السلطة، وعادت فمارست بأبشع ما طابَ لأسلافها من ممارسات؟

وأي “يسار” سوف يأخذ بالثلاثية شبه الملفّقة هذه؟ يسار النظام، أم يسار المعادين له، أم الواقفين منه وقفة يهوذا الأسخريوطي، بانتظار إنقشاع الرابح النهائي من الخاسر النهائي؟ وأي ثائر؟ الثائر من أجل المواطنة ودولة الحق والقانون، أم الثائر الإسلامي من أجل إقامة شرع الله ودولة الخلافة؟ هذا للقول بأن الثورة السورية، مثل كبريات الثورات، هي استثنائية، كيفما قلّبتَ جوانبها.

إقرأ أيضاً: عرس بشّار وموت حلب

مسارها، الذي بدأ سلمياً مدنياً، وانتهى، حتى الآن، بجرائم ضد الإنسانية، تُلقى عليها قنابل الأعداء المتنافسين، وتتلقى غدر الأصدقاء المتقلِّبين، المزاجيين، أصحاب المصلحة المتأرجحة. أو المناخ العام، “روح العصر” الشاهد عليها، الذي يبعث بمؤشرات جادة لقيام ثورة من نمط آخر: ثورة محافظة رجعية، تجتاح الغرب خصوصاً، بشعارات شعبوية نجحت حتى الآن باستقطاب جمهور “غير ثوري”، أو “ثوري رجعي”، وجعلت محاربة الإرهاب والإسلام في الداخل، كما في الخارج، واحدة من أولوياته. ما يسمح للإمبريالية الروسية الجديدة ان تفْرد أجنحة طائراتها الحربية على السوريين، وتقود حرب إبادة ضدهم، براحة قصوى: إذ إن الروس ما زالوا يريدوننا أن نعتقد بأنهم وصلوا إلى شواطىء المتوسط من أجل العلمانية والاقليات، وهي شعارات يجمع عليها بطانية النظام من يساريين وممانعين…

أيضاً: مذْهبة الثورة، وإنخراط سوريا في رسم خريطة إقليمية جديدة، متداخلة مع الوطنية، وجيوش برية وجوية أجنبية، بأشكال وألوان مختلفة، الإسلامية الشيعية والسنّية، وتداخل التنافس بين القوى الفاعلة عسكرياً على أرضها، وإقتصار الحرب عليهم بالجهاديين، الذين جنَّدوا بدورهم أجانب… فالاكراد، والتباس تحرّرهم، وتواطوء أكبر أحزابهم مع النظام، وتبعثر الباقين من المعارضين له. وأخيراً، أو ربما أولاً، حجم الكارثة الإنسانية التي أصابت السوريين، ودمار مدنهم وقراهم وتراثهم، بنتيجة جرائم حرب موصوفة.

إقرأ أيضاً: فيديو لـ«رضيع» ولد مصاباً: هنا حلب!

إن أول ما يشغل السوريين اليوم ليس “النظرية” الثورية، ولا القائد الملْهم… إذ شبعوا من ألوان الإلهام. هم الآن أمام حرب وطنية تتداخل فيها مقاومتان: مقاومة الجيوش والمرتزقة الأجانب، ومقاومة الحكم الأسدي الإجرامي وإرهابييه. حرب داخلية وخارجية. وإذا كان مطلوباً منهم شيئ ومن بعيد، وبتواضع وخَفَر، فهو أن يتجاوزوا تلك الحساسية الشخصية التي يولونها لبعضهم البعض، أن يتجاوزوا تلك الصفة المشرقية القائلة لكل نفس بأنها نبية على أرضها… ويتوحدوا. والوحدة، لا غيرها، الممكنة، هي التي ستشكل بنفسها الإطار، أو المكان الذي يخترع فيه السوريون مسار ثورتهم ومضمونها الكوني، ويعطون المعنى لفرادتها الفذَّة قياساً إلى بقية ثورات التاريخ. ربما لن يخترعوا “نظرية”، ولن ينصِّبوا “قيادة كاريزماتية”، ولا يؤطروا “تنظيماً”، بعدما حُبسوا مطولاً في الأول، وخُدعوا بسحر الثاني، وذاقوا الأمَرَّين من الثالث.

السابق
«بسمات وطن» يتغنى بجدار المخيم ويسيء للمعترضين
التالي
أُطلق على الفتاة 21 رصاصة بكل أنحاء جسدها