صراع الشيعة والموارنة: الذاكرة وما يردمها وما يحييها

يعرض ستيفان وينتر في سياق كتابه «شيعة لبنان تحت الحكم العثماني» كيف تمكّنت عشائر من الشيعة «المتاولة» ـ كما درجت التسمية في تلك الفترة – من الصعود في السلّم العثماني لجباية الضرائب في ولاية طرابلس، على امتداد قرون، وكيف كان وجهاء العشائر يتدخّلون في انتخاب البطريرك المارونيّ نفسه مطلع القرن الثامن عشر، وكيف تعرّض البطريرك اسطفان الدويهي في خريف العام 1703 للضرب على وجهه بالنعال والعصي من قبل الشيخ عيسى حمادة ورجاله في قنوبين، الأمر الذي استدعى تدخّل رجال آل الخازن لنقل الدويهي إلى كسروان. لا يترك وينتر المجال للمصادقة على ما نسجه المؤرخون المتأخرون من الموارنة من سردية «ظلم المتاولة للموارنة»، بل يتقفى أثر لعبة أكثر تعقيداً بين الولاة والجباة والمطارنة والقناصل، بحيث أنّ الشيعة من آل حمادة هم الذين سيتولون على سبيل المثال تنفيذ القرار البابوي بإعادة البطريرك يعقوب عواد الذي أتّهمه قومه بسفاح القربى، إلى منصبه!
كتاب وينتر الصادر عن منشورات كامبردج قبل ست سنوات، هو واحد من هذه المؤلّفات التي يمكنها أن تعيد الاعتبار للطابع المركّب والمتشابك لتاريخ الجماعات الدينية «اللبنانية»، بحيث لا تكاد تتجمّع عناصر مشهدية ملحمية معقودة اللواء لطائفة حتى تتهافت. ولو أنّ الترجمة العربية لهذا الكتاب الصادرة هذا العام عن «مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي»، جنحت، في «مجموعة مقدّمات» صدّرت بها الكتاب إلى توظيفه مذهبياً، لصناعة سردية لا تقلّ أسطورية عن سواها، بل تزيد، وهي سردية «الحكم الشيعي في جبل لبنان».
يبقى أنّ كتاب وينتر يعطي الانطباع بصراع ماروني شيعي مرير ومعقّد في آن. ورغم أنّه ليس غرض الكتاب الرئيسيّ، فإنّ وينتر يظهر ليس فقط طابعه المزمن وذاكرته المحتقنة، خصوصاً عند المؤرخين الموارنة، بل أساساً ضراوة التداخل بين ما هو أسطوريّ وبين ما هو تاريخيّ في هكذا صراع.
وكان المؤرخ الراحل كمال الصليبيّ تطرّق في دراسة له عن مقدّمي بشرّي إلى حروب الموارنة و»المتاولة»، إنّما ليعطيها طابع النزاع الموسمي بين الفلاحين الجرديين، الموارنة، وبين العشائر شبه المترحّلة من الشيعة، حيث يقول الصليبي إنّه «مع كل ربيع كانت حرب الماعز التي لا تعرف لها بداية تستأنف آخذة شكل صراع ديني شيعي ماروني». وهذه زاوية نظر يتحفظ عليها وينتر، كونها تجعل «حرب الماعز» هذه بين جبليين موارنة وسهليين (أو سهبيين) شيعة، في حين يراها هو تداخلاً على الأرض نفسها، وعلى قاعدة تفوّق وجهاء الشيعة في رتبتهم داخل سلّم جباية الضرائب العثمانيّ على أندادهم من الموارنة والدروز، لفترة طويلة، رغم «هرطوقية» مذهبهم في نظر الدولة العثمانية السنّية الحنفية.
نظرة الصليبي إلى هذا الصراع الماروني الشيعي تبقى متأثرة في الغالب على السرديات المارونية، فيما نظرة ستيفان وينتر متأثرة بالسردية الشيعية، وخصوصاً سردية آل حمادة. ليس من السهل أن يفلت التاريخ من السرديات ذات النفس الملحمي أو الأسطوري في الحالتين، خصوصاً وأنّه لم يجر بعد تخصيص الصراع الماروني الشيعي، الخصب أسطورياً، بالحفرية التاريخية التي تتخذه كموضوع رئيسي ومباشر لها.
هذه الخصوبة الأسطورية في مجرى الصراع، أفرزت مناحي مزمنة في أسلوب التناول الماروني، أو الاستشراقي المائل للموارنة. فمن «تاريخ الأزمنة» للبطريرك اسطفان الدويهي إلى «فرس لبنان وأصول المتاولة» للأب اليسوعي هنري لامنس هناك تشديد على الأصول الأجنبية، الإيرانية، لشيعة لبنان. وإذا كان التنازع «الأسطو – تاريخي» بين الموارنة والشيعة والدروز على من يحتل موقع «الضحية المثلى» في حملة المماليك على كسروان، هو تنازع لم يتوقف، وقد أجاد المؤرخ أحمد بيضون تتبعه في كتابه المرجعي «الصراع على تاريخ لبنان»، فإنّ ثنائية أخرى يمكن رصدها من زجلية ابن القلاعي إلى «مسألة لبنان» بولس نجيم (جوبلان) الصادر عام 1908، وحيث ينعت الشيعة في الأدب الماروني بـ»النمور المفترسة» و»شاربي الدماء» وينظر إليهم على أنّهم بمثابة تهديد حيوي مستمر للموارنة، بل أن بولس نجيم يستوحي من نظرته إلى هذا «الغزو المتوالي» كما يسمّيه، ضرورة توسيع حدود لبنان لدرء الخطر المستمر الآتي من شمال شرق سهل البقاع!
رغم كل ما في الأدب الأسطو – تاريخي الماروني من حدّة بإزاء الشيعة، فإنّ الصراع الإسلامي المسيحيّ طغت عليه سمة استقطابية أو نزاعية مارونية ـ سنية، ومع انفجار التركيبة اللبنانية الهشة على خلفية الموقف من القضية الفلسطينية، تعزّز هذا التناقض الماروني ـ السنيّ على حساب التناقض الماروني ـ الشيعي. والمجازر المتبادلة بين الموارنة والدروز، ثم تهجير الموارنة من «الجبل» (الشوف وعاليه) ساهمت هي الأخرى في جعل هذا التوتر المديد بين الموارنة والشيعة، الذي نراه في ثنايا الكتب، من اسطفان الدويهي وبولس نجيم حتى كمال الصليبي ووضاح شرارة وستيفان وينتر، «يوارى» تحت طبقات من السرديات النزاعية «الأسطو ـ تاريخية» الأخرى. التزام لبنان في مقدمة دستوره، بعد الطائف، بمقولة «اللاتوطين» فهم منه كلمة مشفّرة تحوي ميثاقياً مارونياً شيعيًا أيضاً، فلماذا يتعاهد اللبنانيون فيما بينهم على رفض توطين الفلسطينيين إنْ لم يكن ثمة شك بأن فئة منهم ستسعى إليه، لزيادة عددها؟
وحتى بعد ازدهار تجربة «حزب الله»، والاحتكاكات الأهلية و»العقارية» الشيعية المسيحية في العشرين سنة الأخيرة، فإنّ استدارة العماد ميشال عون بعد عودته من المنفى، و»تفاهمه» مع «حزب الله»، كانت كفيلة بتزكية التناقض الماروني السني على حساب التناقض الماروني الشيعي، وبدل الصورة التي ينقلها كمال الصليبي عن «حرب الماعز» بين الجرديين والموارنة والسهبيين الشيعة، طغت صورة تحالف «أبناء الفلاحين»، وأبناء الجبلين، لبنان وعاملة، وراجت بشكل أو بآخر أجواء «حلف الأقليات» و»اللاسنّية» بعد انفجار سوريا. وكل هذا ساهم في «تهميش» ذاكرة الاحتقان الماروني الشيعي، التي حافظت مع ذلك على لحظات ومواقع للبوح عن نفسها، مرة على خلفية نصب «حزب الله» صواريخ في مرتفعات عيون أرغش، ومرة على خلفية النزاع العقاري الوقفي في لاسا، ومرة على خلفية التعبئة المسيحية لمنع بيع الأراضي للشيعة في منطقة «التماس» بين الطائفتين جنوب شرق بيروت، وهكذا.

إقرأ ايضًا: هل تحوّل الصراع في لبنان الى ماروني – شيعي؟
لا ينظر عموم الموارنة اليوم إلى تدخل «حزب الله» في الحرب السورية بسلبية، وقسم منهم «يساير» رواية الحزب حيالها. وفي المقابل، التزم الحزب بتعطيل انتخاب الرئيس لسنتين ونصف، حتى اقتنع الآخرون بالمرشح «المسيحي القوي» رئيساً. في الحالتين، يفترض أن يضيف هذا طبقة تغطية إضافية لهذا العمق المتوتر، لذاكرة «الصراع الشيعي الماروني» المحفوظة في الكتب القديمة منها، والجديدة.
لكن المفارقة، أنّ هشاشة «الردميات» أو طبقات التغطية الأخرى لهذه الذاكرة، مع تراخي التناقضين الماروني السني والماروني الدرزي، تعود فتظهر الصراع الشيعي الماروني مجدّداً، كـ»ماض لم يمض» كلياً بعد، كماض «له مستقبل»، كأسطورة تاريخية يمكن إعادة توظيفها، بل يتم توظيفها إلى حد ما، في سياق التنافر بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري مثلاً، والرد السريع للمفتي الجعفري على البطريرك الماروني مؤخراً، وطالما أن كل طرف يطلق العنان لمعزوفة «أين ميثاقي؟». ومع أنّه مرشّح «حزب الله»، فإنّ جو الاقتدار المسيحيّ بعد انتخاب عون رئيساً ليس بالمعطى السهل تقبّله شيعياً، وصعوبة تقبلّ ذلك لا تنحصر أبداً بالرئيس برّي.
في مكان ما، المعادلة بسيطة: إذا ضعف السنّة والدروز وأحس الموارنة -عن حق أو عن وهم – بالإقتدار، ظهرت ذاكرة «الصراع الشيعي الماروني» أكثر (مطعمة بالنوستالجيا الشيعية على زمن نصف تاريخي نصف خرافيّ كانت فيه طرابلس إمارة شيعية أو جبل لبنان). وفي مكان آخر، حجم الديموغرافيا السورية اللاجئة إلى لبنان، تعود فتغطي على ذاكرة الصراع هذا. عودة «حرب الماعز» التي تحدّث عنها كمال الصليبي ليست بهذه الحتمية، لكنّها ليست غائبة تماماً. جبل عامل، أو جبل لبنان؟ جنوب بيروت أو شرق بيروت؟ أو بالعودة إلى مفاضلة أقامها نبيه بري منتصف التسعينيات: الأرزة، أم شتلة التبغ؟

السابق
تعيين ترامب لـ«الكلب المسعور» يثير قلق الاميركيين!
التالي
القماطي … يفسد مسرحية الجاهلية