16 آذار

كان في باريس صاحب مطعم يطلق على المطعم دوماً اسم الجمهورية التالية. ففي الثالثة، سمى مطعمه “الجمهورية الرابعة”. وفي الرابعة سماه “الخامسة”. ولكن عندما جاء ديغول العام 1958، واحتراماً لمسيرة عظيم فرنسا، سماه “الجمهورية الخامسة والنصف”.

اقرأ أيضاً: بين إنهاء الشغور وإنهاء الفجور

لم نعد في 14 ولا في 8 آذار. وإذ اعلنت الأولى ذوبانها المتكرر، وخطت الثانية نصف خطوة، يكون الحاصل 16 آذار. أو بالأحرى، تحصيل الحاصل.
دارت الديموقراطية اللبنانية دوراتها ولم تخرج من المدار الأوحد. سافر سعد الحريري في جولة حول العالم يستفتي الأمم في أمر لبنان. وقبلها قام بجولة في قلب لبنان. من سمير جعجع إلى سليمان فرنجية، من بشري إلى إهدن. لم يسبقه إلى هذا التنقل المضني، إلا أمين الريحاني في “قلب لبنان” و”ملوك العرب”.
انتهت الجولة، كما ينبغي، أي حيث بدأت. وفي المقابل، قام الجنرال عون بجولته في الاتجاه المعاكس والمدار الموازي. وإذ التقيا أبلغنا كل منهما، أن ما كُتب قد كُتب. من أجل لبنان. وهذا ما كان يريده رفيق الحريري، قال الرئيس سعد لجمهور 14 آذار. وهذا ما يريده لبنان والميثاق والمسيحيون، قال الجنرال عون للذين سبقوه إلى طريق بعبدا، يعشبون اليباس عن جانبيها.
كل ما سبق، ماضٍ مضى. أصرّ صائب سلام في نهاية اشتباك 1958 على أن “لا غالب ولا مغلوب”، و “لبنان واحد لا لبنانان”. هذا أيضاً زمن مضى، حتى كشعار يُرفع على المفارق ويُكتب تحت الصور التذكارية الباسمة. لذا، من قبيل “القناعة كنز لا يفنى” فلتكن 16 آذار.
بدأنا جمهورية جديدة لا شبه بينها وبين اي جمهورية سابقة. أما كيف تتجه وكيف تكون، فليس لدى أحد سوى الأمل والتمنيات. أي أن يكون الرئيس العسكري الرابع، في دستورية و “كتاب” العسكري الأول، الذي نجح في أن يبني الجيش على مثاله. ولما حاول أن يبني الجمهورية على صورته، تفجرت خيمة كراكوز تنطنط على جميع الاراجيح، مستنكرة الخلاص الوطني بدل المنسف المفتوح على شهيات وشهوات السقط.
لا نعرف من أين سيبدأ الجنرال عون محاربة الاقطاع ومقاتلة الفساد وإبعاد الفاسدين. فالوضع الذي نحن فيه لا سابق له حتى في ذروة الحرب الأهلية وتقاسم الأرض والمياه والهواء. ولا بد أنها مهمة عسيرة. لكن الرجل الذي تجاوز طوال اربعين عاماً الحواجز والخنادق والمفارق، لكي يصل إلى بعبدا رئيساً منتخباً، قادر على تحدي هذا الاهتراء الشامل في أوصال الدولة وسمعتها ومحاصصتها، وعلى فك عزلتها الاقتصادية الرديئة، وإعادة الحياة إلى ساحاتها الخالية من أناس الأمس، وحتى من ظلالهم.
نتمنى أن يلقي الرئيس العتيد خطاب القّسَم من ساحة البرج، لا من البرلمان. أن يطل على جميع الناس من الأمكنة التي حولتها الاعتصامات إلى قفر مظلم بعد غياب الشمس. لقد اشتاقت بيروت إلى نفسها، وإلى عزها، وإلى امانها الماضي. والجنرال الذي طالما شكامن أنه لم يُكشف جريمة واحدة حتى الآن، لا بد أنه سيفتح جميع الملفات من جديد، كي يزيل من قلوب اللبنانيين رماد الحسرة وجمر الانتقام.
ليست مهمّة سهلة، مهمّة العود إلى الطمأنينة والازدهار. عندما انتخب الشيخ بشير الجميل كتبتُ انه من اجل أن يحكم لبنان، اشهر بشير الشهابي مسيحيته. ومن أجل أن يحكم، على بشير الجميل أن يشهر اسلامه. ولدى دخول الجنرال عون القصر الجمهوري، يتمنى كل لبناني أن يتخلى عن الدعوة إلى حقوق المسيحيين، لأن حقوقهم تصلهم كاملة، بالعودة إلى الدولة المدنية، والعودة إلى مشروعين منسيين ومهانين ومحتقرين: الاصلاح الكبير والمصالحة الكبرى. وتكون الثانية بارتقاء العمل السياسي إلى عمل وطني، ورجال السياسة إلى رجال دولة، ونشر ثروات لبنان على جميع اللبنانيين، مثلما هي ديونه محتمة عليهم وعلى أولادهم وعلى أحفادهم.
تعرض الجنرال عون لأقسى تجربتين يتعرض لهما سياسي أو عسكري. الأولى قصفه مع عائلته بطائرات “السوخوي”، والثانية العقاب بالنفي إلى الخارج، الذي أوقفت الدول المتحضرة العمل به منذ القرن التاسع عشر. وبعدما عاد من المنفى، في صلحة مع خصومه، ها هو يعود إلى القصر في مصالحة مع معارضيه. أو من يعارضهم، مثل الرئيس سعد الحريري، الذي تنطبق علي دوراته الوطنية، حكاية كان يرويها سعيد فريحة ويرددها شارل حلو كلما اضطر إلى تغيير موقف ما. وخلاصة الحكاية أن فتاة متعلقة بأهلها جداً تزوجت من شاب طلب يدها، وفي يوم العرس، راحت تبكي بلا انقطاع. فحزن قلب أمها وقالت لها: بلا بكي تقبريني، خليكي عنا. فأجابت الحائرة: ببكي وبروح.

جان عبيد ونبيه بري
تمنّعت حتى اليوم عن كتابة أي شيء في معركة الرئاسة، احتراماً لمن يمكن أن يفوز ولمن يمكن أن يخسر. واليوم أسمح لنفسي، محيياً الرئيس الجديد، أن اغتنم الفرصة الأخيرة للكتابة عن مرشحي الدائم منذ سنوات. أنا من اللبنانيين الذين رأوا رئيسهم من خارج الطاولة التي حصرتها بكركي بذوي الأهلية لقيادة الجمهورية فيما العالم كله عاصفة.
ربما رأت بكركي ما رآه الرئيس حافظ الأسد من قبل، وهو ان الذين صنعوا الحرب يصنعون السلام بما يمثلون من قوى مسيحية، قاتلت ودفعت أثماناً كبرى. أنا واحد من الذين كانوا يرون، منذ الطائف ونهاية الحرب الميدانية، أن السلم يصنعه أهله. من المستحيل أن تكون دولة على الحياد، لكن رأس الدولة على الأقل لا بد أن يكون حَكَماً مطلقاً في الداخل.
جاء جان عبيد إلى السياسة من بركات أم ايلي، في تربل. نزل إلى بيروت مفعماً بلبنان، لكن الآتي من مدارس طرابلس حمل العروبة في قلبه معه. لم يطرأ عليها ولم تستجد عليه. وفي العروبة لم يذهب إلى اليمين ولا الى اليسار، بل ظل فوق. وفيما كانت شخصيات العرب تتقاتل، كان هو صديق الخير ورفيق الخير من مصر الناصرية إلى بغداد وسوريا. لم يكن ايديولوجياً ولا ديماغوجياً. لم يخض معركة، ولم يؤيد قتالاً. وفي ذروة الحرب اللبنانية ظل جان عبيد الماروني ساكناً في بلونة، عابراً الخنادق والقطاعات والعواصم، سلاحه الوحيد قلبه وحكمته وثقافته ومعرفته، وخصوصاً، دعاء أم ايلي ودعتها. فعندما غابت، لم ينس مرة الاَّ يفي النذور للقديسة تيريز في ليزيو. مرّات في العام، وما من خطأ مطبعي، في ما قرأتم. مرّات في العام، وهذا الباذل النذور لوطنه وأهله، هو الذي يحفظ القرآن حفظ المصحف، سورة بعد سورة، وهو الذي يستعين باقوال الامام علي على الجهّال وادعياء المعارف.
لم يكن لجان عبيد كرسي في بكركي التي تزوج في كنيستها، وأقام فيها زيجات ابنائه. فلا وجود سياسياَ يحسب له في أي يوم. لا مشاجرة. لا قتال. لا تصريح. لا شتيمة. لا نقطة خارج الحرف، ولا كلمة خارج السطر. موسوعة في تاريخ لبنان وتاريخ العرب. قبول من جميع الأمم دون ملحوظة واحدة. حضور ديبلوماسي أو ثقافي، متألق في المؤتمرات السياسية أو التربوية.
لم أكتب عن ترشيح جان عبيد من قبل، لأنني لست موضوعياً في قضية لبنان ولا مسألة جان عبيد. ولكن وقد خُتم باب الترشيح، كان لا بد من كلمة في حق الرجل الذي رشحته الناس والأمم ولم يعلن مرة أنه يطلب القصر. أكثر من ربع قرن وهو في “مدرسة الرئاسة”. عمل عليها كما لو انها فرض يومي، ومع كل عام كانت مؤهلاته لها تزداد عمقاً. وظل الدرس الأول والفرض الأول، لا خصومات ولا اخصام. ويروى أن الجنرال عون قال له مرة “إذا ليس انا، فأنت”. حظاً سعيداً ايها الجنرال.

السابق
وقائع سيناريو «الإحتمالية المتدنّية»: مفاجأة ٣١ ت١
التالي
عون رئيساً.. إلى الملاجىء!