حلب.. والمدن التي دمرها آل الأسد

يُروى أن دمشق نجت من العقاب عام 1982، عندما قرر تجارها، في اللحظة الأخيرة، العودة إلى أسواقهم وفتح أبواب متاجرهم من دون المشاركة في الإضراب، الذي كان مقرراً البدء به بعد صلاة الجمعة، في معظم المدن الرئيسية بسوريا، إحتجاجاً على القمع المتمادي وسياسات البطش والعقاب الجماعي، الذي صاحب انتفاضة “الإخوان المسلمين”، وتمردهم المسلح آنذاك ضد سلطة حافظ الأسد (1980- 1982). ويعود فشل إضراب دمشق إلى حليف حافظ الأسد، بدر الدين الشلاح، رئيس اتحاد الغرف التجارية، وصاحب النفوذ الكبير، الذي حث التجار على إبقاء الدكاكين مفتوحة في العاصمة. في ذاك الوقت، لم يدرك تجار مدينة حلب بتراجع أندادهم الدمشقيين، فشاركوا بالإضراب، الذي سرعان ما فشل في سائر البلاد تحت وطأة الترهيب والقمع الشديدين.
منذ تلك الحادثة، بات السوريون يعرفون أن حافظ الأسد أصبح “حاقداً” على حلب، ولم يزرها إطلاقاً بقية حياته. وكانت دولته تعاقب المدينة في كل شاردة وواردة أكانت بيروقراطية أو سياسية أو اقتصادية، وفي مختلف مشاريع الدولة وخدماتها ومنافعها وصفقاتها التجارية ومعاملاتها ورعايتها ومقاولاتها.. إلخ.

اختفاء ثلث حماة
في الوقت ذاته، كان مصير مدينة حماة هو الأسوأ. يكتب موقع “القناة الإعلامية للبنت السورية” الموالي للنظام، حرفياً: “في العام 1980 تشكلت قوات سرايا الدفاع (التجمع القومي الموحد)، التي كان يقودها رفعت الأسد ومؤلفة من شباب وبنات عسكريين، حيث توعد “الإخوان” في سوريا، وصرح بأنه سيخوض مائة معركة ويدمر مليون معقل ويضحي بمليون شهيد”. ويعترف هذا الموقع: “ولا شك من أن تلك السياسة التي أتبعها رفعت الأسد قد أنقذت الدولة، غير أنها غيرت شخصيتها وطابعها، في حين صممت السلطات وأجهزة الأمن والاستخبارات السورية على أن تضاهي وحشية أعدائها مستخدمة أكبر وحدات وفرق عسكرية لمحاربة عصابات المدن السلفية التكفيرية”. الموقع نفسه لا يتردد في القول: “والجدير بالذكر، أنه ما بين عام 1980 و 1982 بلغ عدد الإخوان الذين قتلوا برصاص المخابرات السورية وقوى الأمن 2000 شخص، غير الآلاف منهم الذين أعتقلوا، وزج بهم في سجون أفرع المخابرات السورية، وكانوا من أخطر الأرهابيين على الأطلاق..”.

في شباط 1982، انتفضت مدينة حماة وبعض أجزاء حلب، فكان رد النظام اتباع العقيدة العسكرية ذاتها التي يجيدها والمستمرة حتى اليوم: محاصرة المدينة وقطع كل وسيلة إمداد من طعام وماء وطبابة، ثم العمل على دكها بكل ما يملك من قوة نارية بلا هوادة، وبشكل مكثف وعشوائي. بمعنى آخر، قصف عقابي لا قتالي، تدميري واستئصالي. فيدخلها وهي حطام تام. وتلك “العقيدة” العسكرية هي تطوير لإسلوب سوفياتي معروف باستخدام مفرط للذخيرة والقذائف والصواريخ من دون مراعاة الدقة أو تجنيب المدنيين، إضافة إلى الإسلوب النازي على مثال انتفاضة وارسو عام 1944.

على هذا النحو، انتهى “تمرد” حماة بتدمير ثلثها بالكامل ومحو قلبها القديم الأثري، فيما طال الخراب معظم المدينة، وسقط في هذه المجزرة، التي استمرت ثلاثة أسابيع، أكثر من ثلاثين ألف ضحية، بمعدل 1400 قتيل في اليوم الواحد!
كان هذا الدرس المرعب كافياً، لترتجف دمشق، وتخضع حمص واللاذقية وخصوصاً حلب التي شهدت منذ عام 1980، استعداد النظام لتدميرها إن اقتضى الأمر، حين أرسل إليها، مع بداية الاضطرابات، الفرقة المدرعة الثالثة بأكملها، ما يعادل عشرة آلاف مقاتل و250 عربة قتالية، منضمة إليها قوات من “سرايا الدفاع” لبدء حملة مداهمات وتفتيش للمنازل كانت مسبوقة عادةً بنيران الدبابات، ما أسفر عن مقتل العشرات واعتقال الآلاف، ووقف حينها، على برج الدبابة، قائد الفرقة الثالثة، اللواء شفيق فياض، وأخبر أهالي المدينة بأنه مستعد للتضحية بألف رجل، ليطهر المدينة “من جرذان الإخوان المسلمين الإرهابيين”. وبقيت الفرقة الثالثة وقتها في حلب عاماً كاملاً. ولا بد من الإشارة هنا، أن العام 1980 شهد أيضاً حملة عسكرية على مدينة جسر الشغور انتهت بمقتل حوالى 300 من سكانها واعتقال مئات آخرين، في مثال أول لاستعداد قوى الأمن على قتل المتظاهرين بالرصاص الحيّ وبواسطة الطوافات أيضاً. وفي العام نفسه دبر رفعت الأسد مجزرة في سجن تدمر العسكري، ذهب ضحيتها وفق بعض المصادر نحو 600 سجين سياسي، فيما تشير مصادر معارضة أنهم أكثر من 1200 سجين. وفي العام ذاته، وضمن سياسة تعمية ممارساته داخل سوريا وعدم كشفها للعالم، تم اغتيال نقيب الصحافة اللبنانية رياض طه في بيروت، وخطف وتعذيب وقتل رئيس تحرير مجلة “الحواث” اللبنانية سليم اللوزي.
انتفاضة المدن عام 1964
عن حلب ودمشق وصراعهما المديد مع سلطة “البعث”، تروي خلود الزغير (سوريا في معتقل البعث/الأسد – قصة وطن): بعد انتشار أخبار قصف حماة في 7 نيسان 1964، عمّ الإضراب العام معظم المدن السورية، تعبيراً عن استياء الشعب السوري الذي بدأ مطالبته بالحريات، لشعوره بإهانة كرامته بعد سنة من استلام البعث. وطالبت “الجبهة الوطنية الديموقراطية الدستورية” وهي مجموعة من المثقفين من محامين وأطباء ومهندسين وصيادلة عبر بيانات عديدة لهم بـ:
– إلغاء حالة الطوارئ.
– إطلاق الحريات العامة وإعادة العمل بالدستور.
– تشكيل حكومة انتقالية من عناصر وطنية، تتولى إجراء انتخابات حرة نزيهة لإقامة حكم ديموقراطي سليم.
شارك بهذه الجبهة معظم التيارات السياسية وبخاصة منها اليسار وعلى رأسهم الاشتراكيون العرب الذين لعبوا دوراً في استمرار الإضراب.

رداً على هذه “الانتفاضة السلمية” الأولى في زمن “البعث” أصدر أمين الحافظ بصفته الحاكم العرفي في 30 نيسان 1964 إنذاراً، يقضي بمصادرة المحلات المُضربة، وتحويل ملكيتها للدولة إذا وجدت مغلقة بلا مبرر قانوني، كما ويحال مالك المحل للمجلس العرفي العسكري بتهمة التخريب والإخلال بالأمن وزعزعة الثقة العامة. وأصدر قانوناً بإحالة كل شخص يقوم بتهديد الغير أو يدفعه لإغلاق محله بأي وسيلة من الوسائل بشكل مباشر أو غير مباشر، وكل شخص يحرض على الإخلال بالأمن أو الشغب، إلى المجلس العرفي العسكري مع مصادرة أملاكه وأمواله المنقولة وغير المنقولة.

قُمِعَ الإضراب العام في سوريا عام 1964 تحت عَسفِ الأوامر العرفية والإرهاب الأمني. حيث انتهى اضراب دمشق بعد ساعات من صدور هذا الأمر العرفي. لكن أصحاب المحلات المنهوبة من التجار وقّعوا عريضة رفعوها لأمين الحافظ ومحمد عمران، جاء فيها: “قامت أمس وأول أمس عصابة مسلحة بكسر أبواب محلاتنا التجارية، وانتهاك حرمتها، واحتلالها، ونهب موجوداتها، بشكل وحشي لم يسمع بمثله قبل اليوم، وقد أشاعت هذه العصابة أنها تقوم بعملها تنفيذاً لأمر الحكومة، وإننا نعتقد بأن أي حكومة في العالم لا يمكن أن تسمح لبعض رعاياها بالقيام بأعمال السلب والنهب والقرصنة لأي سبب كان. وقد سبق لبلادنا أن أضربت مدة ستين يوماً خلال الاستعمار الفرنسي البغيض، ولم تجرؤ سلطات الاستعمار على القيام بمثل هذا العمل الوحشي… ولمّا كانت الحكومة تنادي وترفع شعارات الحرية والديموقراطية، وتؤكد حرصها على مصلحة المواطن، ولاسيما صغار التجار والحرفيين أمثالنا، فإننا نعتقد بأن العمل الذي تم أمس قامت به عصابة مسلحة مجرمة، غايتها إشاعة الفوضى وبث التفرقة بين أبناء الشعب، وأنها تريد أن تسيء إلى سمعة الجيش السوري فلبس بعض أفرادها الملابس العسكرية وحملوا رشاشات عسكرية…”.

يمكن أن نلاحظ في هذا البيان، البدايات المبكرة لظاهرة “الشبيحة” المصاحبة لحكم “البعث” (أكان في العراق أوسوريا)، كما يمكن ملاحظة تلك المقارنة الثاقبة لتبيان الفارق الهائل بين ممارسات “الاستعمار الفرنسي البغيض” و”العصابات المسلحة المجرمة” التي يسيرها الحزب العروبي الحاكم (حسب البيان 1964). بل ويمكن من خلال هذه التجربة وتجربة 1982، فهم الفشل الجزئي لـ”إضراب الكرامة” الأول والثاني (2011- 2012). وتردد المدن في التورط بعصيان لا تتحمل عواقبه الانتقامية.

الاستيطان وأطواق الاحتلال
من مسلسل هذه “الحوادث”، طوال عقود استيلاء “البعث” على السلطة، يتبدى تاريخ الكراهية بين المدن والنظام. وعلى الرغم من أن ثورة 2011، وجدت حاضنتها الأساسية في الأرياف والأطراف والبلدات الصغيرة والضواحي الفقيرة و”العشوائية”، إلا أن المدن بالذات كانت في البداية هي مراكز التظاهرات السلمية الأولى، أي في أسواق دمشق القديمة، وفي ساحات حمص واللاذقية وأكبرها في ساحة حماة، ثم انضمت حلب. ولم تنكفء هذه المدن وتستكين إلا لأن النظام، ومع خبراته ودروسه المتراكمة منذ 1964 و1982، كان جاهزاً بكل ثقله الأمني والمخابراتي وشبكة أعوانه وشبيحته لقمع هذه المدن باكراً. ورغم ذلك، فالثمن الذي دفعته حمص كان جحيمياً بكل مقاييس التدمير والتهجير. فيما حلب تستمر بتلقي أطنان القذائف، وهي المدينة التي تعرضت لأوسع حملة “براميل متفجرة” ممنهجة طوال أكثر من سنة.
طوال حكم حافظ الأسد، تعرضت تلك المدن إلى سياسة “احتلالية – استيطانية” طويلة الأمد، عبر تمكين هجرات منظمة من أرياف “موالية” إليها، وإنشاء أحياء وضواح ومساكن عسكرية وثكنات ومؤسسات أمنية وحزبية، تتغلغل في نسيجها العمراني والسكاني وتطوقها وتمسك مداخلها ومخارجها. فالمتابع لكل المعارك أو الصدامات المسلحة التي شهدتها المدن السورية طوال خمس سنوات، سيصاب بالدهشة إذ يرى الكيفية التي تتوزع بها المطارات العسكرية، والمواقع والتحصينات والمرافق الأمنية ونقاط المراقبة والثكنات وحتى المستشفيات والمخافر ومرابض الكتائب والألوية والفرق ومقرات أجهزة المخابرات و”المدن الكشفية” ومخيمات “شبيبة الثورة”، والمستودعات النائية، ومخازن النفط السرية، والعنابر التموينية، والصوامع ومحطات الطاقة (وكلها مراكز يتموضع فيها الجيش) ومكاتب الحزب الحاكم، ومخابئ الدبابات والكمائن الثابتة والحواجز الدائمة.. هي قائمة كلها منذ عشرات السنين، ربما بما لا يتناسب مثلاً مع حرب محتملة ضد إسرائيل أو أي دولة مجاورة أخرى، لكن بالتأكيد بما يتطابق مع سيناريو كان دائم التوقع في عقل النظام: انتفاضة السكان. حرب ضد الشعب السوري نفسه. لا شيء يبرر “خريطة الانتشار” هذه، سوى أنها استعدادات قديمة ومدروسة، كان النظام لا يكل عن التحضير لها طوال عقود، وخصوصاً بعد تجربة حماة 1982، ودروس “الحرب اللبنانية” ومدنها.
من تل الزعتر إلى الأشرفية
كان الدرس الأول لجيش حافظ الأسد في حرب المدن عام 1976، مع بداية تدخله العسكري المباشر في الحروب اللبنانية (أو الملبننة)، حين وقعت دباباته في كمين قاتل في مدينة صيدا. حينها تم إحراق عدد كبير من الدبابات، فيما منيت قوات المشاة بهزيمة فادحة، وانتشرت جثثهم في ساحات المدينة وأزقتها. وبعدها لم تتجاوز قوات الأسد خط نهر الأولي، شمال المدينة، طوال وجودها في لبنان. منذ تلك الضربة المهينة، اعتمد الجيش السوري عقيدة “الحصار والقصف” ضد المدن العاصية. وأول اختبار لهذا التكتيك الجديد كان في مخيم “تل الزعتر” في السنة ذاتها، والمعروف المصير للجميع. التدمير الكامل وتهجير السكان وجرفه عن وجه الأرض.

بعد سنتين من حادثة صيدا، ومعركة “تل الزعتر”، نشبت المعارك بين الجيش السوري والميليشيات المسيحية اللبنانية، وكان ثقلها القتالي الأبرز منطقة الأشرفية (الجزء الشرقي من بيروت). عُرفت تلك المعارك بـ”حرب المئة يوم” (1978)، وعمد فيها الجيش السوري إلى شن أعنف حملة قصف بالدبابات والمدافع، مع استخدام مكثف لراجمات الصواريخ واعتلاء المباني العالية للقنص ولنشر الرشاشات الثقيلة. قصف وتدمير بلا أي محاولة اقتحام، وإيقاع الأذى بأكبر عدد من السكان وتحطيم معنوياتهم وتدمير مساكنهم. لكن، إذا كانت الفعالية التدميرية للنظام تتم في سوريا بالخفاء وبعيداً عن أعين العالم وإعلامه، فهذا مستحيل في لبنان. لذلك، ورغم قصفه للإذاعات (“صوت لبنان” مثلاً) ومحطة التلفزة (قناة 5 و11 على ما أذكر)، ومع وجود عشرات المراسلين الأجانب في بيروت، فشل النظام السوري في إخفاء جرائمه الحربية.. فانتهت تلك الحرب بهزيمة معنوية وعسكرية، اضطر معها للإنسحاب من كل المناطق المسيحية، التي كانت تسيطر عليها “الجبهة اللبنانية”، وليسطع اسم بطلها بشير الجميل.

بعد سنتين أيضاً، في أواخر العام 1980، أرادت القوات السورية المنتشرة حول مدينة زحلة وتلالها، تحسين انتشارها العسكري وتحصين مواقع جديدة لها لإحكام الطوق حولها. فردت “القوات اللبنانية” داخل المدينة بتدمير جرافة عسكرية سورية. هكذا بدأت حرب جديدة امتدت لأشهر عدة (انتهت في تموز 1981) وخضعت فيها المدينة، للتكتيك العسكري نفسه: قصف عشوائي وكثيف، ليلاً ونهاراً، وتدمير المدينة على رؤوس ساكنيها. وأيضاً انتهت الحملة الانتقامية بخروج الجيش السوري من زحلة ومحيطها. فكانت هزيمته الثالثة مع المدن اللبنانية بعد صيدا وبيروت الشرقية.

طرابلس 1983- 1985
ظلت طرابلس اللبنانية عصية على الجيش السوري، حتى اثناء احتلاله لها فلم يكن يتمركز إلا خارجها وعلى نحو رمزي. فبعد شهور من الاجتياح الإسرائيلي وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، عاد ياسر عرفات إلى طرابلس وبدأ بتجميع قواته المتوزعة في البقاع والشمال وإعادة تنظيمها، في الوقت الذي كان يحاول النظام السوري وضع هيمنته على منظمة التحرير، استثماراً للضعف الشديد، عقب تشتتها بعد اجتياح 1982، فبدأت مواجهة عسكرية شاملة بين القوات الموالية لعرفات وتلك المنشقة عنه المدعومة من الجيش السوري، في الشمال والبقاع. وتراجعت قوات “فتح” والموالين لها إلى أن حوصرت في طرابلس، التي كانت “حركة التوحيد” الإسلامية (اللبنانية) تسيطر عليها وتتحالف مع أبو عمار، وتحتضن كذلك الكثير من المعارضين السوريين الذي نجوا من مذبحة حماة، وحملات تصفية المعارضة في سوريا.

طوال شهر تشرين الثاني من العام 1983، قام الجيش السوري والمنظمات الفلسطينية (الصاعقة، القيادة العامة، “فتح الانتفاضة”..) والميليشيات اللبنانية الموالية له (البعثية، الشيوعية، القومية السورية..) بإطباق الحصار على طرابلس. وابتدأت كالعادة سياسة الإخضاع بالقصف المكثف بلا توقف لأكثر من عشرين يوماً، ولم يتوقف إلا بتدخل سياسي عربي ودولي، أفضى إلى اتفاق بخروج عرفات وقواته من المدينة بحراً، من جهة، وعدم دخول الجيش السوري إلى المدينة، من جهة ثانية.
الفشل في دخول طرابلس أيضاً، سيراكم حقد حافظ الأسد ونظامه على هذه المدينة، والتي لا بد أنها كانت تذكّره بحماة وحلب وصيدا والأشرفية وزحلة وسائر المدائن العاصية والمتمردة عليه. وستأتيه فرصة الانتقام في خريف عام 1985. فبعد مناوشات عديدة طوال سنوات بين جبل محسن حيث تقطن أغلبية علوية موالية للنظام السوري، وأحياء المدينة المتاخمة له (باب التبانة خصوصاً)، شنت الأحزاب اللبنانية الموالية للنظام السوري هجوماً واسعاً على طرابلس (والمينا)، بدعم مباشر من وحدات الجيش السوري. وكانت المعركة عبارة عن صب حمم الراجمات والمدافع الثقيلة ومدفعية الدبابات والهاون والمدافع الرشاشة المضادة للطيران على أحياء المدينة، تم قطع الكهرباء والماء والمحروقات، ومنع دخول الأغذية أو المساعدات الطبية. واستمر الحصار والقصف العنيف لأكثر من عشرين يوماً، ولم يشترك الجيش السوري بالهجوم البري، تاركاً هذه المهمة للميليشيات اللبنانية، التي تكبدت خسائر فادحة قبل أن يحسم لها الأمر وتستسلم المدينة، فتدخلها سرايا المخابرات السورية، وترتكب مجزرة في أحياء طرابلس القديمة وتغتال العديد من شبانها وتعتقل مئات آخرين. وعلى غرار اغتيال رياض طه وسليم اللوزي، سيتعرض الباحث الفرنسي (الخبير بالحركات الإسلامية بطرابلس، وبخفايا السياسة السورية وأفعالها) ميشال سورا، للخطف والتعذيب والموت في زنزانة سرية.
العودة إلى بيروت
في العام 1986، في عهد الرئيس أمين الجميل، طلب لبنان رسمياً انهاء الوجود العسكري السوري في لبنان، لكن بحجة “نقص شرعية هذه السلطة” تجاهل النظام السوري الطلب، بل وصمم على العودة إلى بيروت الغربية. وكان مسعاه هذا قد ابتدأ عام 1983، بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي، وبتزويد الميليشيات اللبنانية الموالية له حينها، بمختلف أنواع الأسلحة، ومدها بالعتاد وتأمين كل وسائل الدعم، لتتجدد الحروب اللبنانية مع حرب الجبل وشرق صيدا والضاحية الجنوبية وصولاً إلى 6 شباط 1984، حين استولت الميليشيات على بيروت الغربية وطردت القوى الأمنية اللبنانية منها، ثم قامت بتصفية حركة “المرابطون” (البيروتية) المشكوك بولائها لياسر عرفات. ثم وبحجة منع الاقتتال بين حركة “أمل” الشيعية و”الحزب التقدمي الإشتراكي” الدرزي، اللذين انزلقا إلى حرب شوارع يومية، دخلت في البداية (عام 1985) مجموعة “المراقبين السوريين”، وهم مجموعة ضباط استخبارات اتخذت من فندق البوريفاج وبعض الشقق القريبة منه، مقراً لها. وكانت مهمتهم الأساسية المعروفة “تصفية العرفاتيين”، وقتل المعارضين للنظام السوري، وإحكام السيطرة على الأحزاب المنضوية تحت وصاية حافظ الأسد، وإعادة الهيمنة الأمنية والمخابراتية على الشطر الغربي من العاصمة اللبنانية و”إدارة” النزاعات المحلية السياسية والمسلحة والتلاعب بها وافتعال الصدامات وبث الفوضى، في الوقت الذي كانت تجري فيه عمليات خطف الأجانب من شوارع المدينة، وتفجير السفارات، ثم الاستيلاء على مطار بيروت الذي شهد بدوره، خطف الطائرات منه وإليه، وتحوله إلى أشهر مرفأ جوي لتهريب المخدرات والعملات المزورة والأسلحة وتصدير “الإرهابيين”.
حدث هذا كله، بالتزامن مع “حرب المخيمات الفلسطينية”، التي خاضتها حركة “أمل” بالنيابة عن النظام السوري وبالأصالة عن نفسها، وهي التي لديها ثأر من منظمة التحرير الفلسطينية، منذ الصدامات الدامية في جنوب لبنان، ما بين 1979 وحتى عشية الاجتياح الاسرائيلي عام 1982.

كانت حرب المخيمات الوحشية تقوم على العقيدة العسكرية السورية ذاتها إزاء المدن أو التجمعات السكانية الكثيفة: الحصار المديد والتدمير الشامل. ثلاث سنوات من القصف والقنص والتجويع انتهت بتدمير 80 في المئة من مخيمي صبرا وشاتيلا، وعلى نحو أقل باقي المخيمات (الرشيدية وبرج البراجنة..).

إقرأ أيضاً: معركة حلب قلبت الموازين: صفعة لروسيا وتحرير مؤتمر جنيف

في العام 1987، دخلت القوات السورية إلى بيروت الغربية بذريعة وقف الاقتتال بين حليفيها “أمل” و”الاشتراكي”، وأول ما فعلته هو مذبحة في ثكنة “فتح الله” ذهب ضحيتها إعداماً نحو 30 من مسلحي “حزب الله”. ويقال أن ضابط المخابرات جامع جامع هو المسؤول المباشر عن هذه الجريمة. ويمكن القول أن “غزو” بيروت الغربية هو الأنجح في كل الغزوات السورية للمدن العاصية، فهو لم يقصفها ولم يهاجمها، بل اشتغل على “تعفينها” و”تخريبها” وتمكين الميليشيات التي يسلحها ويمولها ويدعمها ويخترعها منها، وتشجيعها على نشر الفوضى وزرع السيارات المفخخة وتنفيذ الاغتيالات بالخصوم (سياسيين ورجال دين وإعلاميين ومثقفين..)، و”تدوير” أسباب النزاعات الأهلية وتقويتها ونفخ نارها و”إدارتها” وتأليب حليف على حليف، وصنع الانشقاقات داخل الأحزاب والنقابات وتجنيد قتلة وإرهابيين وإعلاميين.
وخلال السنوات الثلاث التالية، نجح النظام السوري في تحويل بيروت الغربية إلى ما صارت إليه مقديشو في أواخر التسعينات، أو إلى ما صارت إليه كابول في منتصف التسعينات، أو مونروفيا عام 1996 أو فريتاون (سيراليون) عام 2002. مدينة محطمة وبائسة هجرتها نخبتها الاقتصادية والعلمية والثقافية والمهنية وهربت منها السفارات والوكالات والشركات، وتجنب كل أجنبي المرور بها. وتحولت إلى مرتع للرعاع المسلحين و”الشبيحة”، بقيادة “سوريا الممانعة” وأحزابها الميمونة.

وكان “النموذج السوري” في الحرب القائمة على القصف الأعمى، ملهماً حينها لحليفها المستقبلي الجنرال ميشال عون، الذي تكفل في حربه الدونكيشوتية على الجيش السوري، بتدمير البيروتين الغربية والشرقية (1988-1989) التي نسل منها أيضاً “حرب الإلغاء” (1989- 1990) فنجح بتدمير ما لم تستطع القوات السورية تدميره في المناطق المسيحية عمراناً واجتماعاً، ومهد للجيش السوري أن يحتل كل لبنان من العام 1990 وحتى العام 2005.

يمكن القول أن مآلات المدن اللبنانية وحروبها، ومثال حماة، كان درساً يومياً للسوريين يردعهم عن أي تمرد أو عصيان.

إقرأ أيضاً: المتحدث باسم «فيلق الرحمن» لـ «جنوبية»: هذه معركة حلب وانعكاساتها على غوطة دمشق

يُروى أنه في أحد اجتماعات قادة المعارضة المسلحة السورية عام 2013 نشب خلاف بين الحلبيين والدمشقيين، الحلبيون كانوا متحمسين لخطة هجوم على دمشق بالتزامن مع انتفاضة مسلحة بداخلها، فيما عارضها الدمشقيون خوفاً من تدمير انتقامي للعاصمة. فردّ عليهم الحلبيون: لماذا إذا تحمستم للهجوم على حلب عام 2012 وكنا معترضين خوفاً على المدينة من عقاب تدميري؟

تكشف هذه الواقعة، القناعة الراسخة في أذهان السوريين عن نظام الأسد، وعدم تورعه عن ارتكاب أشد الفظاعات، بحق المدن وأهلها. وهي القناعة – الحجة التي يعلنها أصلاً معظم الذين عارضوا الثورة، لا من منطلق تأييد النظام أو موالاته، بل تجنباً لبطشه وعقابه الذي لا يُحتمل. وهذا ما يفسر إلى حد بعيد الاستكانة التي تطبع المدينيين السوريين الذين يخافون على أملاكهم وأرزاقهم وأولادهم وثرواتهم القليلة أو الكثيرة، خصوصاً سكان المدن الأصليين. فأهل دمشق لا بد أنهم يشاهدون يومياً ما يحدث في حلب. لا بد أنهم يتذكرون نجاتهم عام 1982 حين تخلّفوا عن الإضراب وتورطت حلب.

كل التجارب التي خاضها جيش الأسد في لبنان ضد المدن وضد المخيمات الفلسطينية، سيكررها ضد المدن السورية ومخيمات الفلسطينيين أيضاً (اليرموك، خان الشيح، درعا، حندرات..)، لكنه سيطور أدوات فتك وتدمير جديدة: الأسلحة الكيماوية، البراميل المتفجرة. كما سيطور عقيدة سياسية مفادها “سوريا الضارة أو الزائدة” و”سوريا المفيدة”، وفق قول بشار الأسد الشهير “أنا رئيس بعض السوريين وليس كلهم”. وتتيح هذه العقيدة السياسية، استباحة المدن والأرياف والقرى المتمردة إلى حد الإبادة، طالما أن سكانها لا يستحقون أصلاً الوجود، ضارّون أو زائدون عن الحاجة.

منذ العام 1973، يحافظ النظام السوري على بلدة القنيطرة المدمرة تماماً والخالية من السكان، بوصفها “شاهدة على القوة التدميرية الغاشمة للعدو الصهيوني”، وكمتحف طبيعي للخراب والحرب. وهي على الأرجح أهم نصب تذكاري – فني أقامه نظام الأسد في سوريا، تعريفاً بزمنه، ورمزاً لعهده. فباسم محاربة إسرائيل ومقاومة الاستعمار، قد لا يبقي بشار الأسد حجراً على حجر، وفاء لشعار “الأسد أو نحرق البلد”، والذي بات عملياً “الأسد بعد حرق البلد”.

(المدن)

السابق
هذا كان جزائي عندما دافعت عن العمال السوريين على أحد حواجز حزب الله…
التالي
أبو زيد لـ« جنوبية»: جيش النظام استعاد موقعين فقط من أصل 17 في حلب