مطار اسطنبول كمصيدة للصحافيين

بالنسبة إلي على المستوى الشخصي وليس فقط السياسي من الشاق جدا أن أتعوّد على أن تركيا ولا سيما المدينة الرائعة، عجوزا وشابةً، اسطنبول، هي مكان خطِر على الصحافيين.

منذ مدة لم تعد قصيرةً تعوّد العالم ولا يزال على سماع أخبار محاكمات واعتقالات الصحافيين الأتراك في جملة الجو القمعي البوليسي الذي يقوده الرئيس رجب طيّب أردوغان منذ خَلَع عباءةَ “المسلم المعتدل” والإصلاحي عام 2013 ليتحول تدريجيا وبسرعة إلى ديكتاتور حقيقي من أولئك “الدكاترة” الذين يعج بهم سابقا وحاليا الشرق الأوسط. بل الفارق عنهم أنه بات يمثِّل أول ديكتاتور لنظام “الإخوان المسلمين” الحاكم في تركيا، إذا استثنينا التجربة الوخيمة للسودان التي كانت نصف إخوانية نصف عسكرية وتحولت إلى عسكرية كاملة. الجديد في الأشهر الأخيرة أن مطار اسطنبول صار مصيدةً للصحافيين الأجانب والمراسلين الأتراك في الخارج الزائرين لبلدهم… على السواء.
تكرر اعتقال الصحافيين الواصلين إلى اسطنبول في سلسلة طويلة لستُ لأحصيها هنا بل لأشير أنها باتت تضم لائحة طويلة من الصحافيين الأوروبيين والأميركيين والأتراك وآخرهم مراسل صحيفة “حريات” العائد من نيويورك والذي أصبح تحت المحاكمة.
أن تكون أكاديميا أو صحافيا أو ناشطا في المجال العام في تركيا صار مهنةً خطرة حتى أن بعض المراسلين اغتيل ولا سيما الذين كانوا في مناطق قريبة من سوريا. بعضهم أعلن “داعش” اغتياله واتُّهِمت خلايا تركية إسلامية بتنفيذ ذلك.
“نعود” إلى مطار اسطنبول كمصيدة…
البلد الذي لم يعد آمنا لأي صحافي أو مراسل معارض للحاكم المطلق رجب طيِّب أردوغان، وهو وضع غير دستوري حتى الآن لأنه يتم بتجاوز الدستور الحالي التقليدي، هذا البلد كيف دخل في كابوس بوليسي لم نشهد مثله حتى في أسوأ أيام الوصاية العسكرية على الحياة السياسية التركية؟!
لا تعنيني هنا فقط المقارنة مع الماضي، بالأحرى الماضِيَيْن العسكري والأردوغاني عندما نجح أردوغان في تقديم نفسه وحزبه كقوة دمقرطة للوضع التركي. وهو وضعٌ اليوم يشعر الغرب كله بأن كان مجرّد خدعة انكشفت في السنوات الأخيرة.
ما يعنيني هو المقارنة مع المستقبل. فالذي يجري نحره اليوم هو مشروع إسلام ديموقراطي ومتقدم اقتصاديا لا نظير له حتى اللحظة في كل الشرق الأوسط، رغم الأخبار الجيدة التي أرسلتها تونس في السنتين الأخيرتين. لكن تونس الواعدة لا تستطيع، بنيةً وقدرةً، تعويض الكارثة التركية والتي، حسب العديد من المعلقين الغربيين، باتت تهدد بتفتيت تركيا نفسها على أكثر من صعيد.
مطار اسطنبول صار مصيدة للصحافيين.

اقرا ايضًا: لا تحمّلوا تركيا ما لا تستطيع..
المختلف عن غيره من مطارات الاستبداد في العالم ومنطقتنا، أن تلك المطارات تسبقها سمعتها فلا يأتي إليها الصحافيون إلا في ظروف استثنائية مدروسة جدا. لكن أن يصبح مطارٌ “ليبرالي” كمطار اسطنبول فخا للصحافيين بينما هو “ملاذ” لأنواع عديدة من الإرهابيين، وهذا ثابت ومعلن في سجلات العديد من منفذي العمليات في أوروبا، فهذه “نهاية” وخيمة لا يمكن أن تستمر طويلا.
زرتُ تركيا أكثر من 22 مرة ولمدد متفاوتة في ربع القرن المنصرم. وأمضيت فيها كما كتبتُ عنها عشرات الرسائل والمقالات، بما فيها ديوان شِعر تحت عنوان “قصيدة اسطنبول” (تُرجِم إلى الانكليزية وصدرت ترجمته في سيدني وبيروت مؤخرا) كما شاركتُ في ندوات بحثية جدية عنها في أمكنة عديدة في العالم، وأشعر اليوم بمعزل عن الإحساس بالخسارة السياسية كخسارة لرهان شخصي، أن العالم المسلم يخسر عبر الكابوس التركي الحالي أكبر رهاناته الديموقراطية والتحديثية.
لكن تركيا ليست موضوعا ميؤوسا منه. فالقوى الليبرالية الشبابية والثقافية والسياسية والاقتصادية تواصل يوميا مواجهتها في المدن التركية، وخصوصاً اسطنبول، وسط وعي متسع في الغرب بتحوّل نظام الحكم إلى مشكلة كبيرة إن لم أقل استراتيجية. وعلينا أن نضم إلى هذه المعارضة ممانعاتِ شخصياتٍ كبيرة وكوادر متزايدة داخل “حزب العدالة والتنمية”.
تركيا الواعدة وحصيلة جهود عشرة عقود من التحديث لن تترك نفسها.

(النهار)

السابق
اسرار الصحف المحلية الصادرة ليوم الجمعة الواقع في 24 حزيران 2016
التالي
حوار ثنائي بلا بيان!