نهاية مرحلة

لوهلة، كان المنطق يقول غنه لا بد من انتظار بعض الوقت لقراءة أبعاد المفاجآت التي حملها الاستحقاق البلدي، لكن التداعيات الصاخبة كانت سريعة، ومحاولات التذاكي بعيداً من الأضواء كانت معبرة، وإطلاق النصائح من بعضهم، لم تخفِ حجمَ التهشيم الذي أصاب القوى الكبرى الممسكة بمفاصل السلطة منذ أواخر التسعينات، والتي توزعت منذ 2005 على تحالفين شطرا البلد عموديا، يجمع بينهما، بعيداً من معزوفات “السيادة” و”السياديين” من جهة، و”الممانعة” و”المقاومة” من جهة ثانية، تكامل في المحاصصة ورعاية لفساد غير مسبوق وسطو على المال العام، ما جعل تصنيف لبنان في اسفل الدول التي يعشعش فيها الفساد.

من الاخر، غيبت القوى الكبرى كل شعارات التنمية والانماء، وحولت الانتخابات البلدية منافسة سياسية غير مسبوقة، استحضرت فيها “الشهداء” و”الانجازات”، وجاء من يخبرنا أنها معركة الدخول في العصر عبر طي صفحة ” الاقطاع” القديم المتناسل منذ القرن السابع عشر.

ومن الاخر، وجهت صناديق الاقتراع صفعات متتالية للمتمادين بالفحش في بلد باتت فئات واسعة فيه، على حافة الفقر، وذلك كنتيجة لانتشار “إقتصاد مواز”، تتسرب من خلاله إلى أغلب الخاصة، أجزاء كبيرة من مقدرات الدولة. رفض الناس الفساد ورموزه، وللمرة الأولى في تاريخ الانتخابات في لبنان بدا للقاصي والداني أن المواطن، في الأغلب، قدم حس المحاسبة على أي عامل آخر.

ولنبدأ من الثنائية الشيعية، فرغم تمكن “حزب االله” في مناطق هيمنته المحروسة بالحديد والنار، من فرض أكثر النتائج، فقد تعرض لجروح ثخينة، إذ اقترع ضده ما بين 35 و40 % من الناخبين، بعدما هاله التجرؤ على الترشح. وما إن انتهى الفرز حتى سارع “المقربون”، للحديث عن خيانات هنا وهناك. وفي المقابل ولحصر التداعيات، “غادر” محافظ الجنوب في إجازة، بحيث يتم تأخير انتخاب رؤساء البلديات واتحاداتها ما يعطي الوقت لرتق بعض ما مزقه الاستحقاق البلدي.

أما ثنائي معراب الذي بشّر بأنه تسونامي سيعيد الحقوق (وكان احد طرفيه قد أعلن استعادتها بعد صفقة الدوحة)، فقد حصد الريح، وخسر كل ما اعتبره معاركه الكبرى، من القبيات وتنورين وسن الفيل وانطلياس وساحل المتن الشمالي إلى الدامور.. وحيث فاز هذا الثنائي في دير القمر يبدو عاجزاً عن ترجمة فوزه، مع تعذر انتخاب رئيس للبلدية، ورغم الخطاب “الانتصاري” لسمير جعجع ومباهاة جبران باسيل بأن الفريقين توحدا (…)، فالثابت أن نسبة 86 % المزعومة لم تلامس فعلياً الاربعين في المئة. والمعركة ضد “الاقطاع التقليدي” وهو موجود ومحدود التأثير، انقلبت ضد مطلقيها، لأن الناخبين وقد لمسوا غياب الصدقية من جهة، وغياب المعبر الحقيقي عن وجعهم، رفضوا اقطاعاً سياسياً حقيقياً، يلبس لبوس” أحزاب” طائفية، يورث الأصهار والزوجات إذا تعذر وجود الابناءء.

إقرأ أيضًا: بلديات الجنوب منذ 2004: أكبر سرقة للأرض تحت ظلال «المقاومة» والثنائية

وعلى المقلب الآخر، فان وزير الداخلية ومن خلال المواقف التي أطلقها، فإنه سارع إلى التلويح بمغادرة المركب الذي داهمته العواصف. نعم، تبدو زعامة الرئيس سعد الحريري قد تراجعت إلى حدود صيدا، بعدما بدا أنها أصيبت بضعف بنيوي في بيروت، وتعرضت للهزيمة في طرابلس فيما النتائج جد متواضعة في بقية مناطق الشمال وإقليم الخروب والبقاع الغربي..

كذلك النائب وليد جنبلاط، أصيب بكثير من الشظايا، وعلى طريقته أعطى إشارات بأن “المعالجة” آتية، وقد تكون عبر اطاحة قسم أساسي من الحرس القديم، الحرس المسؤول، بنظر جنبلاط، عن اخفاقات بلدية في الغرب والاقليم. وربما يعتقد أن هذا المنحى الذي يوفر لوريثه وضعاً مريحاً، قد يعيد حيوية مفتقدة إلى الحالة الجنبلاطية.

إقرأ أيضاً: الانتخابات المحلية تحدت حزب الله شيعياً وهددته سنياً

لقد حملت نتائج صناديق الاقتراع البلدية أكثر من بداية تمرد على المحاصصة الطائفية. والاكيد أنها فتحت كوة في الجدار. والارقام تؤشر إلى أن صفحة أهل الفساد تهتز بقوة، وربما يلج لبنان أكثر فأكثر، وبقدر لم يتوقعه كثيرون مرحلة جديدة. فنهاية المرحلة الحالية التي فضحت “الأقوياء” وأسقطت من قيل إنهم “أصحاب حيثية” والرئاسة معقودة لأحدهم، تتطلب بعد الانتخابات البلدية البدء في معركتين لا ثالث لهما:  الاولى، تنظيم صفوف قوى المجتمع المدني والعمل للربط بين المناطق والانتقال إلى المواجهة السياسية، لخوض الانتخابات النيابية في كل لبنان. وأي تردد أو تأخير من شأنه إبقاء البلد في الدوامة.  والثانية، بدء معركة إقرار قانون جديد للانتخابات يضمن الحد الأدنى من عدالة التمثيل. والقوى المدنية مطالبة بتحديد خيارها بدقة، بمعنى أي قانون تريد، والذهاب إلى الناس، وهم السلاح الحقيقي لمواجهة محاولات السلطة فرض القانون الذي يعيد استنساخ المجلس النيابي نفسه.

يبقى أنه من آخر قرية حتى العاصمة، بلادنا ينهشها الفقر ويطحنها الجشع. والاحتجاج الشعبي في صناديق الاقتراع، مؤشر إلى أن المواطنين وبنسب كبيرة، اقترعوا لمحاصرة طبقة سياسية مغرقة في الفساد.

مع طي صفحة الانتخابات البلدية يمكن القول إن مرحلة كاملة بدأت تطوى.

(المدن)

السابق
كلمة الرئيس الحريري في إفطار البيال…
التالي
بالفيديو: ابعاد أردوغان عن تابوت محمد علي كلاي «دفشاً» وحراسه يتشاجرون!‏