الأزهر – غير- الـ – شريف

أخي القارئ العزيز الأريب، ليكن معلومًا عندك – من البداية -أني عندما أستخدم مصطلح الأزهر هنا في هذا المقال، فإني لا أقصد به المسجد الجامع، فكل مسلم مؤمن يقر ويعترف بأن المساجد ودور العبادة هي أبنية مُقدسة مُشرفة؛ لا يجوز ولا يُعقل أن يتم انتقاصها أو نقد صفات الإجلال والعظمة التي تُحيط بها.

ولكني أقصد بهذا المصطلح المؤسسة الدينية الرسمية في الدولة المصرية، تلك المؤسسة التي اتخذت من اسم الجامع الأزهر الشريف لقبًا واسمًا، ليصبح ذلك اللقب لها حجابًا وساترًا واقيًا يصد عنها ضربات أعدائها وخصومها.

الأزهر الشريف

ذلك اللقب الذي اتخذته تلك السلطة الدينية الرسمية تعريفًا لها وتمييزًا، من أين أتى ذلك اللقب وما الدليل على حقيقته وصدقه؟

الحقيقة أن ذلك اللقب أصبح مع مرور الوقت مجرد عادة التصقت بالألسن فانتشرت وذاعت وعلا صيتها وتناقلها الناس فيما بينهم حتى أصبحت تلك التسمية قالبًا و«أكليشيه» جاهزًا يتم استدعاؤه عند الحديث على المؤسسة الدينية دون تمحيص أو إعمال للعقل.

فكما كان أمراء وملوك الطوائف الخونة المتخاذلين في الأندلس قد اعتادوا على أن يتخذوا لأنفسهم ألقابًا سلطانية فخيمة مهيبة كالمعتضد والمعتمد والقادر وغيرها من الألقاب، بالرغم مما هم فيه من هوان وذل وضعف وانكسار، فها هو الأزهر قد اتخذ سدنته له لقبًا يبرئ ساحتهم، ويعلن عن صدق طويتهم فيذرون به الرماد في عيون مناوئيهم ومعارضيهم، ويستمدون منه كرامة زائفة وشرفًا لا أصل له.

هل يحق لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل صفة الشرف دائمًا ما تلتصق بالأزهر دون غيره؟

أم أن هذا السؤال سوف يفتح علينا بابًا من أبواب الاعتراضات الغاضبة المستنكرة التي ستنظر إلى سؤالنا على كونه نوعًا من التجديف والهرطقة؟

قليلة هي تلك الأماكن التي يرمز ويعبر تاريخها عن تاريخ بلادها بكل تلك الدقة والحرفية التي نجدها في علاقة مؤسسة الأزهر بمصر.

فالأول ارتبط مصيره بالثانية ارتباطًا وثيقًا لا انفصام فيه ولا خلاف.

ذلك المسجد الجامع الذي بناه الفاطميون في القاهرة عقب دخولهم لمصر عام 358ه، فاتخذوا منه منبرًا إسماعيليًا شيعيًا لنشر مذهبهم وعقيدتهم في شتى ربوع وأنحاء العالم الإسلامي التي استطاعوا الوصول إليها، ولكن مع تدهور الدولة الفاطمية واضمحلالها وأفول نجمها، فإن الأقدار شاءت أن تغير مصيره ومستقبله، فسرعان ما تبدلت وجهته في عصر الدولة الأيوبية – التي اعقبت الفاطميين – فأضحى منارة للفكر السني وقاعدة ومرتكزًا رئيسيًا لمهاجمة التشيع.

تلك كانت بداية الأزهر التاريخية، من المذهب الشيعي إلى المذهب السني، من النقيض إلى النقيض، وكأنما كان مكتوبًا على ذلك المسجد الجامع والمؤسسة الدينية التابعة له أن يكونا مجمعًا للأضداد ومسرحًا للمتناقضات.

هل عندك شك في تبعية العلم والدين للسياسة على مدار تاريخ المحروسة؟

نظرة واحدة خاطفة في تاريخ الأزهر سوف تمحو أي أثر للشك في عقلك، فالأزهر دومًا ما ارتبط مصيره بمصير السياسة في بلده

دائمًا مع الغالب، يسانده ويدعو له ويؤيده ويشيد به ويهاجم أعداءه ويندد بهم.

إقرأ ايضًا: الازهر يدعو الى «قتل وصلب وتقطيع ايدي وأرجل ارهابيي الدولة الاسلامية»

حتى إذا ما هُزم الغالب فأضحى مغلوبًا، نجده – أي الأزهر -قد عدل من بوصلته وأعاد ضبط دفته وعكس من خط سيره، فيدعو لمن كان في الأمس القريب يدعو عليه، ويلهث لسانه بالثناء والمديح لمن كان منذ قليل يلعنه ويحرض ضده.

لا تتعجب ولا تندهش، فأنت في بلد الفرعون والعبيد، تلك البلد التي يقول فيها فرعون لأتباعه (ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فيتبعونه ويسيرون خلفه في طاعة عمياء، حتى ولو أمرهم بعبور البحر التي تمثل أمامهم معجزة انشقاقه إلى نصفين بعد أن ضربته عصا موسى فصنعت فيه ممرًا آمنًا من اليابسة بإذن الله.

لا تتعجب فأنت في بلد العجائب، بلد وصفها الواصفون بقولهم (هي لمن غلب).

وبما أن المؤسسة الدينية في الأزهر تقع داخل مصر، وبما أن مصر كلها هدية وغنيمة يقنصها الغالب من المغلوب، فلا غرابة إذن في أن يتبع الأزهر سيده الجديد وأن يخضع له خضوعًا مطلقًا لا يحده حد ولا يقيده شرط.

كان الأزهر دائمًا تابعًا مخلصًا لسيده – طالما كان ذلك السيد قويًا مهابًا – سواء كان ذلك السيد شيعيًا أم سنيًا ، فاطميًا أم أيوبيًا ،بل إنه على مدار دولة المماليك الطويلة التي امتلأ تاريخها بوقائع الاغتيالات والمؤامرات السياسية، ومن بعدها الحكم العثماني الطويل على مصر، نجد الأزهر دائمًا ما يقف موقف المحايد الذي ينتظر نهاية المعركة، فقط ليبارك للمنتصر على انتصاره ويُضفي على ذلك الانتصار بعدًا دينيًا روحيًا عميقًا، ثم يقف بعد ذلك بجوار مائدة المنتصر ذليلًا خاضعًا حانيًا رأسه منتظرًا بعض الفتات الذي قد يُنعم به عليه.

كانت العمامة والقفطان الأزهري – دومًا – رمزًا لمؤسسات الدولة الدينية الرسمية، التي كانت تعمل لتمرير قرارات الحاكم المتغلب وإضفاء الشرعية على أحكامه وأوامره.

دور المؤسسة الدينية لم يقتصر عند ذلك الحد فحسب، بل إن الكثير من رجالها قد تطوعوا في العديد من المناسبات لإظهار جزعهم وتألمهم المبالغ فيه، عندما يصاب الحاكم بأي مشكلة أو يلحق به أي مصاب.

أتذكر أيها القارئ العزيز عندما توفي حفيد الرئيس الأسبق حسني مبارك؟

عندها بالغ أحد رموز تلك المؤسسة في إظهار حزنه وجزعه وتألمه، وفي محاولة ارتجالية سخيفة منه للتقرب من صاحب السلطة والنفوذ في البلاد، فإنه وبعد أن وصفه بعدد من جميل الأوصاف مثل الحكيم والفارس والمعلم ورب العائلة المصرية، فإنه قام بتبشير أهل الطفل المتوفي بالجنة، وبالغ في تلك البشارة حتى أنه قال بالحرف (أنا شايفه – يقصد الطفل المتوفى – في الجنة مستنيكم لما تروحوا عنده.. إنتوا خلاص ضمنتوا الجنة) ورغم أن ذلك الشيخ وقتها قد أعلن أنه استند في فتوته وبشارته على أحد الأحاديث النبوية الشريفة، إلا أنه قد وقع في خطأ لا يغتفر عندما خالف الاجماع الفقهي الذي لا يُعين البشارة في شخص أو فرد بعينه في تلك الحالة، وأنه من المفترض أن تكون البشارة بشكل عام دون تحديد أو تشخيص.

نفس الشيخ خرج قريبًا لتأييد الحاكم الجديد على مصر، فأظهر عدد من المواهب الخفية والمعارف الروحانية ذات الأبعاد الغيبية المستقبلية عندما قال لذلك الحاكم مساندًا إياه ومشجعًا له (ولقد تواترت الرؤى بتأييدكم من قبل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومن قبل أولياء الله)!

إقرأ أيضًا: الازهر يطرح مبادرة للتقريب بين السنة والشيعة

شيخ آخر من رموز تلك المؤسسة برع في توظيف الفقه الإسلامي في سبيل تبرير الواقع المجتمعي المهين الذي نعيش فيه ليل نهار، فقد جعل من الأمر والقرار السلطاني حاكمًا على النصوص القرآنية والحديثية ومهيمنًا عليها.

فالراقصة – في وجهة نظره – إذا توفيت وهي ترقص، فهي شهيدة، لماذا؟

يجاوبك عندها بكل ثقة وأريحية، لأنها خرجت تلتمس رزقًا، فهي إذن في سبيل الله حتى ترجع.

فهو مثله مثل غيره من شيوخ تلك المؤسسة الهرمة ذات العظام النخرة، لا يستطيع تغيير الواقع ولا تبديله، وبما أن الدولة تقنن الرقص وتعطي رخصة لفتح الملاهي الليلية والمراقص، إذن فالرقص حلال .. حلال.. حلال.

نفس الشيخ له فيديو شهير على اليوتيوب، يصف فيه رئيس الدولة ووزير الداخلية بأنهما رسولان مبعوثان من قبل الله تعالى، وأنهما كموسى وهارون عليهما السلام اللذان أرسلهما الله لفرعون الذي طغى وتجبر.

المؤسسة الدينية لم تكتفِ بلعب دور البطولة المطلقة في كل المواقف، بل إنه في الكثير من الأحيان نجد رموزها قد قبلت عن طيب خاطر وبأريحية كاملة أن يشاركوا بعدد من الأدوار الثانوية وأن يتقمصوا عندها أدوار الكومبارس والمساعدين واللبيسة الذين كل مهمتهم أن يساعدوا البطل على التألق والسطوع.

فعلي سبيل المثال – لا الحصر – كان الاجتماع المتلفز الذي عقده وزير الدفاع – حينذاك – مع رموز المعارضة وممثلي مؤسسات الدولة يوم 3/7/2013 م، واحدًا من أهم تلك المشاهد وأكثرها وضوحًا وتميزًا.

يومها تألق شيخ الأزهر في أداء دوره الثانوي الصامت، كانت الكاميرا تظهره بعمامته البيضاء ولحيته النامية – تلك التي عجز الزمن أن يُطيلها على مدى الشهور والسنين – وقد وقف بجوار وزير الدفاع مؤيدًا ومساندًا.

صورته الصامتة كانت خير من ألف كلمة، ولعل تلك الصورة سوف تجد لها مكانًا يومًا ما على حائط بطولات ذلك الذي يسمونه الأزهر (الشريف).

هل معنى كل ذلك أن جميع العلماء الذين خرجوا من الأزهر ودرسوا فيه كانوا على تلك الشاكلة وهذا المنوال؟

لا بالطبع، لا يمكن أن نعمم الحكم على الجميع، بل إن كلامنا ينصب في الأساس على قيادات تلك المؤسسة التي درجت على النفاق، فاتخذت منه هدفًا ومنهاجًا وعلى رموزها التي تتصدر المشهد وتوجه سياساته وتحدد أهدافه.
فهل نمتلك من القدرة ما يمكننا من تقويم تلك المؤسسة الفاسدة المفسدة المنافقة، أم نسايرها في نفاقها وتملقها ونخلع عليها لقبًا هي أبعد ما تكون عنه؟

(ساسة بوست)

السابق
بين أنباء المرض وأنباء الوفاة..بالأرقام: هذا ما قدمته أنجلينا جولي ولم يقدّمه ايّ من العرب؟
التالي
بالصورة: رجاء خاص من عائلة الأسير محمد ياسين