الفيدرالية نتيجة تراكمية… ولكن؟

لم يكن موضوع إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي عن النظام الاتحادي الفيدرالي في المناطق التي يسيطر عليها مفاجئاً أو صادماً لأحد، بل كانت السياسات التي يتبعها الحزب بذراعه العسكري قوات حماية الشعب توضح النهاية إلى ذلك المسار، وقد واجه هذا الإعلان رفضاً من القوى السياسية المتواجدة في سوريا سواء من قبل حكومة النظام الديكتاتوري أو من قبل المعارضة السورية.

أول ما تبادر إلى ذهني عندما سمعت خبر إعلان الفيدرالية مقطع من قصيدة للشاعر العربي الشاب هشام الجخ قال فيها ما يشبه “أنا العلوي والدرزي والسني والشيعي والكردي… أنا العربي لا أخجل” وأغنية كنا نرددها صغاراً لطفل في حينا كردي عندما نريد أن نزعجه “كردي لولو عالجبل”. لا يمكن لأحد في كل سوريا أن ينكر الظلم التاريخي الذي وقع على الأكراد منذ أن تشكلت الدول الناتجة عن تفكك الدولة العثمانية إلى اليوم، ظلم كان واقعاً من قبل النظام السياسي الحاكم في مختلف مراحله الذي دأب على قمع حلم الشعب الكردي في دولة قومية خاصة به على غرار القوميات الأخرى في المنطقة، رافقه تراكم تاريخي انعكس على السلوك الاجتماعي تجاه الأكراد مما وسع الهوة أكثر بينهم وبين شعوب المنطقة، وعلى رأسها الأكثرية العربية.

وقع ذاك الظلم بعد أن حذفت معاهدة لوزان عام ١٩٢٣ على يد الحلفاء والدولة القومية التركية حينها بقيادة أتاتورك ما أقرته معاهدة سيفر عام 1920 من دولة كردية تتمتع بالحكم الذاتي بداية وتتكون من أجزاء كبيرة من تركيا ومن أخرى شمال العراق وجزء صغير شمال شرق سوريا، هكذا وفي ظل تشكل الدول القومية “المستوردة” حينها كانت أمة كاملة تُحرم من حقها كغيرها من أمم المنطقة، وأثر ذلك على العلاقات السياسية والاجتماعية فيما بعد بين العرب والكرد، فقد دعم النظام القومي العربي بقيادة عبد الناصر النضال الكردي من أجل إقامة دولته مستفيداً من نزاعه مع تركيا، لكنه سرعان ما حاربه واعتقل العديد من شخصياته، وترافق ذلك مع تشويه متعمد لصورة الكردي الذي ظل يعامل على أنه مواطن درجة ثانية، ولا نتحدث هنا عن سياسة النظام الديكتاتوري الذي لم يكن لديه مواطنين درجة أولى بالأصل، وإنما عن نظام العلاقات الاجتماعية السائد في المنطقة. هل رأيتم يوماً أحداً يعترض على وضع زميل له على مقاعد الدراسة تخرج من الجامعة ولو كان أكثر تفوقاً ثم عمل في نفس المؤسسة التي عمل أحدنا فيها مهندساً أو طبيباً أو غير ذلك مراسلاً في تلك أو عامل تنظيف فقط لأنه من المكتومين بالرغم من أنه يحمل نفس شهاداتنا الجامعية، وطبعاً هو نفسه الذي يخدم فترته العسكرية على الجبهة، هل فكر أحد منا أن يتعلم اللغة الكردية؟ طبعاً لا “فهي ليست لغة مهمة، ولا حتى تتكلم بها دولة من الدول، وكذلك ليست باللغة التاريخية”، بل مجرد محاولة تعلم عربي للكردية يثير ضحك من يسمع ذلك، ألا نقول لمن يحاول خداعنا “مستكردني”. ألا تعتقدون أن تلك الدونية التي نمارسها عن قصد أو غير قصد سيكون لها ثمن ما؟ إن الظلم والإقصاء لحقوق الكرد مقابل التباهي بالقومية العربية طيلة القرن السابق لمرحلة ظن فيها أحد المثقفين العرب المصريين أن الكرد ليسوا أكثر من طائفة عربية كما ذكر في قصيدته لم يكن ليمر دون أدنى إزعاج. لم تتبن كل الأحزاب السياسية المنضوية تحت أقدام النظام الحاكم أو المتمردة عليه في سوريا حقوق الشعب الكردي باستثناء حزب العمل الشيوعي في كراسه الصادر في منتصف السبعينات الذي أقر فيه حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. كل هذا التجاهل والإقصاء والتهميش والقمع الاجتماعي قبل السياسي كان لا بد أن يولد حالة شوفينية عند عناصر عديدة من العرقية الكردية، بل إنه من الخطأ نفسياً وتاريخياً واجتماعياً أن لا تظهر تلك العناصر. كان ذلك حتى عام 2004 عندما انتفض الكرد في الحسكة ومناطق أخرى، ورغم فشلهم في تصدير تلك الانتفاضة للعرب لتبنيهم مطالب كردية صرفة، ولأن المواجهات قامت حينها على الأساس العدائي بين العرب والكرد نتيجة مفرزات سقوط بغداد، ورغم محاولة الأحزاب الكردية حينها استثمار الانتفاضة للتقرب من النظام الحاكم من خلال بياناتهم العديدة التي طالبت بعدم الإساءة لشخص “سيادة الرئيس”، برغم كل ذلك هل كان السوريون العرب سيتعاطفون مع تلك الانتفاضة لو تم دعوتهم إليها، قراءات جميع المثقفين والناشطين العرب على مختلف مستوياتهم إلى اليوم تظهر عكس ذلك، لكن بعد الانتفاضة رأينا مطالب الشعب الكردي مدرجة على ورقات تجمع إعلان دمشق عام 2005 ومشاركة عدة أحزاب كردية فيه، ورغم ذلك فمن الطبيعي أن يستغل بعض الكرد القوميين والانفصاليين إن شئتم هذه الحالة ويعلنون نظاماً فيدرالياً، وخاصة بعد حالة الهيجان التي أصابت كل القوى السياسية العربية التي تتبنى “الخط الوطني أولاً ثم القومي” في المجلس الوطني نتيجة طلب حذف كلمة العربية من اسم الجمهورية العربية السورية. لذا لا نتوقع أن لا نواجه تلك العقبات في ثورتنا جراء تمسكنا إلى اليوم ببنى مجتمعاتنا التقليدية العفنة، ولا يجب أن نطالب الأكراد الوطنيين بمحاربة هذا الإعلان بعد جوع قومي لمئة عام، معظم الكرد يعيشون حالة من الصراع الداخلي اليوم، ومن يحسم أمره دون صراع ضمن الدولة الأحادية الوطنية فهو حتماً نبي من أنبياء المواطنة.

على جانب آخر تكمن المشكلة في تضييع الفرص على الحياة المستقرة التي من الممكن أن تعيشها البلاد بعد سقوط النظام في حال هكذا إعلانات، الفيدرالية في أساسها عندما تم إيجادها في المرحلة الأولى في أوروبا كانت تسعى لتركيب مجموعة من الدول لديهم مشتركات عديدة في مختلف المجالات، ويريدون في المقام الأول”وحدة وطنية”، وليس العكس، ولا يمكن أن تؤخذ التجارب الناجحة للفيدراليات لأنه يجب أن يؤخذ معها ظروف المنطقة وتاريخها ووضعها الاجتماعي الذي أدى لنجاحها. مشكلتنا مع الفيدرالية تتطابق مع المشكلة السابقة للمنطقة مع القومية، فعل الاستيراد التي تقوم به منطقتنا إلى اليوم من الغرب، نشأت الدول القومية في أوروبا نتيجة ظروف دافعة أفرزها التطور الاقتصادي والصناعي والاجتماعي منعكساً على السياسة واحتياجات المجتمعات لأشكال جديدة من الدولة تلبي إشباع تلك التغيرات، وكذلك كانت الفيدراليات الأوروبية، ولا يمكن استيراد الفديرالية لإخفاء رغبات أخرى، فمن البديهي أن إعلان النظام الفيدرالي ليس ناتج عن درس لحاجات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإنما عن جرعة مخففة لرغبة في الانفصال مبنية على أساس إيديولوجي في زمن باتت الإيديولوجية تهدد مجتمعاتها لأنها تجنح بطبيعتها البنيوية للاستبداد، مثال فدرلة يوغسلافيا واضح للعيان، إن كنا نعشق الأمثلة الأوروبية، ولكن لدينا مثال واضح تماماً ومطابق لفيدرالية شمال شرقي سوريا، كردستان العراق، الذي يعاني من مشاكل عديدة نتيجة أزمة بين حكومة الإقليم والمركز، مشاكل مبينة بالشكل الرئيسي على أزمة الثقة بين الطرفين، كما يعاني على المستوى الداخلي من أزمة اقتصادية وسياسية..

من حق العرق الكردي قبل كل شيء أن يقرر مصيره، ولكن إن قلنا شعباً فالشعوب لا تتحدد برابطة الدم، وإنما برابطة الكيان السياسي، وهنا يكون الشعب سورياً، فلا شعب عربي ولا آخر كردي، تلك هي الأمم، أما الشعوب فعليها أن تتشارك عناصرها في تقرير مصيرها حتى لا تموت فوق خلافاتها، من الممكن أن يكون شكل الدولة أحادياً أو فيدرالياً أو بإدارة لا مركزية، ولكن يحدد ذلك الشكل استفتاء شعبي يقرر مصير الدولة وشكلها مرتكزاً على قاعدة جوهرية وهي ضمان حقوق الجميع دون استثناء، هنا يمكن أن تطرح كل الحلول…

(عضو تيار الغد السوري)

السابق
«الاقليات» سلاح ضد الاقليات
التالي
توقيف بيار حشاش..