السفير.. ليست حكاية حنين

حسنا. دعونا من رائحة الورق والحبر. الجرائد تصنع من أرخص أنواع الورق، ولا يفترض بها أن تدوم لأكثر من يوم، وأن تستخدم لاحقا لمسح الزجاج فهذا ليس عيبا.
بدأت بقراءة “السفير” مذ كنت ولدا، وعملت فيها طوال عشر سنوات، ولا أذكر أنني التقطتها يوما وقربتها من وجهي لأشم رائحتها. لكنني، نسبيا، لم أقرأ غيرها في نهاية المطاف.

إقرأ أيضًا: هل تنجو الصحافة الورقية اللبنانية من الهلاك؟

هذه الجريدة كانت، مثل فيروز وزياد الرحباني والحمرا والجامعة وما قرأت من كتب، جزءا أساسيا من تشكيل وعيي وثقافتي، وقد كانت في فترة عملي فيها عالمي الكامل الذي بدأته وقد حققت حلما بالعمل فيه، وانتهيت منه بالهروب محملا بشعور هائل بالغبن، لن أبالغ إذ أقول إنه الغبن نفسه الذي حمله معظم الخارجين منها، بارادتهم أو لأنهاء خدماتهم.
لكنني أكتب الآن لأنها تعنيني، وأكتب متحررا من إحساسين هما ضدان لكتابة أريدها هادئة ومتزنة: الحقد والحنين.
من دون غبن أكتب محاولا أن أفهم لماذا تصل السفير إلى التوقف عن الصدور، بعد بضعة أعوام على عبورها عامها الأربعين، وهو عمر يفترض أنه صغير لجريدة.

يمكننا أن نرتاح إذ نلوم الانترنت والفيسبوك، ومع ذلك فالمشكلة ليست في الشكل (الورق) الذي لم يعد يستطيع اللحاق بقطار افتراضي خرافي السرعة وها هو ينتهي نهايته المنطقية. أظن أن مشكلة السفير تقع في المضمون أولا وأخيرا.
دخلت إلى كلية الإعلام وخرجت منها وأنا أعلم أنني لن أكتب إلا في السفير. ولم أحتج إلى كتابة أكثر من موضوع واحد لصفحة شباب حتى تبدي مديرة التحرير هنادي سلمان اهتمامها بالتعاون، هو نفسه الاهتمام الذي كانت تبديه بكل من تحس آنه يمكن أن يقدم للسفير وقارئها شيئا.

بدأت أكتب. لم أجد من يقول لي إن هذا النص لا يتبع مدرسة بعينها في الصحافة. اليسار ليس هوية سياسية فحسب بل هو هوية مهنية، والجريدة كانت أمنية لتشجيع حرية صحافييها، الجدد على الأقل، على التجريب حتى النهاية في الكتابة. ثقة تبدو بديهية في السفير، مع أنها مستحيلة في أقرب صحيفة إلى يمينها. ما كنا نكتبه في السفير كنا نظن أن لا صحفية أخرى تنشره، وفي الغالب كنا على حق.

قبل الدخول إليها، كنت مبهورا باسمين: ضحى شمس وساطع نور الدين. أبدأ بقراءة العدد من محطته الأخيرة، وأبحث عن ضحى بين الصفحات. لا شك أن صوتي في الكتابة كان في جزئه الكبير منهما.
ضحى نفسها كانت أول من كتب في “السفير” بال”أنا” المكروهة في الصحافة التقليدية، وكانت أول من جعلت قراءة التحقيق أو التغطية فعل تسلية إضافة إلى كونه يوصل ما يريد من معلومات. أما صفحة شباب فجاءت لتطلق أيدي الهامشيين المفتونين بالكتابة، نحن الذين تقريبا مررنا سيرنا الذاتية في مقالات، وصار قراء السفير يعرفون عن حيواتنا الشخصية تماما كما يعرفون عن أصدقائهم. هذا بدوره لم يكن عيبا، وقد أحبه القراء. وبينما كنا نكتب عن أنفسنا، كنا نجرب الكتابة في السياسة والمجتمع اللبناني الذي كان خربا لكنه كان ناشطا. ومع أننا كنا أقرب إلى السذاجة في السياسة، وكنا كائنات خجولة ولا تجيد العلاقات العامة، لكننا كنا مسيسين أخلاقيا، ولا نجيد الانتماء لطرف. لكننا كنا نتحمس أحيانا وسأقول عن نفسي إنني تحمست مرات ونتج عني مقالات أخجل، حرفيا، منها، وأود لو أنني لم أكتبها.

هؤلاء الصحافيون المختلفون كان يطمع بهم كائن صحافي اسمه جوزف سماحة. لن أدعي أنه كان صديقي، ولم أكن من جيش المبهورين بمقاله، ولاحقا استعدته في فلاش باك سياسي منتقدا مواقفه التي عاد فوضعها في اطارها المبرر سياسيا صديقه، صديقي، المحب حازم صاغية. أقدم نفي الصداقة لأقول إن جوزف سماحة كان يولي اهتماما فائقا بهؤلاء الصحافيين الهامشيين، الذين يكتبون في “الآن هنا” (صفحة تحقيقات وفيتشرات) وصوت وصورة وشباب، ويفضلهم على كتاب الصفحتين الثانية والثالثة المكرسين الذين كانوا قد تقولبوا بما يكفي سياسيا ومهنيا وعلى مستوى إسلوب الكتابة نفسه، ولم يعودوا قادرين على الخروج شكلهم المحفوظ قط. جوزف سماحة كان يريد تعميمنا (ماذا كنا نسمى؟ جماعة هنادي؟) على اقسام الجريدة كلها بما فيها الاقتصاد. لم تنجح التجربة، لكنها كانت تستحق.

أبعد من ذلك، فجوزف سماحة، وعلى الرغم من موقفه السياسي الواضح في انحيازه، كان كرئيس تحرير أهم صفتين فيه: نزاهته وديموقراطيته المهنية العميقة، كان جوزف يحمي المختلفين مع الخطوط السياسية العريضة للسفير، خاصة بعد انفجار ١٤ شباط، ويومي آذار المشهودين، والانقسام العميق في البلد. في هذه الأيام ظل جوزف سماحة ظهرا للكتاب السياسيين المعارضين للخط الذي انتهجته السفير، وظل حاميا لنا، نحن المحسوبين على هنادي، والذين لم نجد أنفسنا في أي من الخطين السياسيين.
لكن جوزف كان قد يقترب تدريجيا من طريق “السفير” المسدود.. المسدود.

أغنية عبد الحليم حافظ باتت في السنوات الأخيرة مادة نميمة ممتازة بيني وبين أصدقائي في الجريدة. حتى أنني كتبت مرة موضوعا شديد التفاهة كان همي منه أن يكون عنوانه: طريقك مسدود مسدود.
حائط جوزف المسدود أتركه لرسالة الاستقالة التي تركت على ما أعرف في مكتب الاستقبال ولم أقرأها، كما أنني لست بوارد التحدث باسمه. لكنني أظن أن أول خسارات السفير الكبرى كانت في مغادرة جوزف سماحة. ليس أنها فقدت مقاله، بل لأنها، في اللحظة الذي خسرته، وظهور “الأخبار” كمنافس من البيت نفسه، لم تعد حاجة للطرف السياسي الذي تغازله، بل صارت هي التي تحتاج إليه. هكذا بدأت رحلة تدهورها.
الرأي المختلف الذي كان يحميه جوزف سماحة وجد نفسه فجأة بلا سقف ديموقراطي متنور وعال كانه جوزف. وازداد المنتمون لهذا الطرف تطرفا وحدة، بينما بدأ المختلفون يتسربون، إما بالفصل أو بالاستقالة الطوعية. لن أسم أحدا بالطبع. الباقون اختاروا التقية. لن أسم أيضا. في الخلاصة، خسرت السفير بعد ١٤ شباط أن تكون منبرا لطرفي البلد، ومع أنها ادعت أنها ضد الفتنة، لكنها ظلت تقف إلى أحد طرفي هذه الفتنة. وجاء ٧ أيار ليقضي بمانشيتات متكررة على جمهورها الأول والأساسي، قارئها البيروتي والطرابلسي والصيداوي الذي آمن بناصرها وعربوتها من اليوم الأول لصدورها بيمامتها، برتقالة يافا الحزينة. ونبذت جمهورها اليساري والأفراد. صارت لونا واحدا فاقعا بشدة.
لم تعد الجريدة قادرة على تسويق قضيتها، ولم يعد جمهورها العتيق يؤمن بأنها مخلصة لشعار العروبة، وفلسطين ضمنه. لم يعد فلسطينيو لبنان، في المخيمات وخارجها، يؤمنون بهذا، فكيف بالآخرين.
وبينما تغادر الأصوات المختلفة، ويقمع الآخرون أصواتهم بانتظار فرصة الانعتاق، كانت السفير تخسر جسمها الصحافي، ولا ترفده بجديد يكفي وإن ظلت أسماء حديثة تلمع. وراح الجهاز الأساسي فيها، الكادر الصحافي، يتقلص بينما تتضخم الاجهزة الأخرى، بسبب البيروقراطية على الأرجح، حتى بات الصحافيون هم الأقل عددا. والطابق الثاني الذي كان يتخانق صحافيوه على مقعد فيه، يشهد على الصحراء التي تحولت إليها السفير ليس الآن فحسب، بل حين غادرتها قبل ثلاث سنوات وبضعة أشهر.
وكأن ٧ أيار لم يكن كافيا، جاءت سوريا لتقضي على ما تبقى من أمل. وقعت السفير في انقسام لا عودة عنه. ومرة ثانية تجدد النزف وتجدد الاحباط واختارت الجريدة أن تحسم خيارها في أن تكون طرفا، وخسرت، ليس الرأي الآخر فحسب، بل الثقة في خبرها السوري نفسه. ببساطة، لم تعد تُقرأ، لا في السياسة المحلية ولا في الخبر العربي. ووصل الأمر بالسفير أن تختنق بتغريدة عماد الدين رائف وحسان الزين، ألطف مخلوقين على سطح كوكب الصحافيين. إنه، مجددا، شعور الصحيفة بالحاجة إلى الطرف السياسي الذي يبدو أنه، ببساطة، لم يعد بحاجة إليها.
على خط مواز، كانت تسير تجربة الصحافيين الذين كانت السفير سببا في نجوميتهم الرقيقة التي لا تشبه نجوم التلفزيون. هؤلاء وصلوا إلى حوائطهم حين عجزت السفير عن فتح مجالات جديدة لهم ضمنها تخرجهم من التكرار الذي وقعوا فيه حين لم يعد هناك من جديد يقولونه. لم يكن بامكاننا أن نظل نكتب في شباب إلى الأبد. حتى أن المشهد سيكون weird. لكن كان بالامكان استخدام هذه الاسماء التي استثمرت فيها السفير في مساحات مختلفة، ملاحق أو غيرها. كل ما فعلته الجريدة هو ضمها إلى أقسام أخرى، راسخة على تقليديتها، وحين يكون من المستحيل تغييرها، يصير عدم الذوبان فيها أفضل الممكن. أفضل الممكن الذي لن يقود إلا إلى الإحباط والبحث عن ثغرة في الطريق المسدود.
تفخر السفير بأنها بيت يفتح بيوتا (صحافية). هذه ليست وصفة ناجحة لصحيفة كي تستمر. في المنطق التجاري البحت للربح والخسارة، ليس ذكيا أن تتعب على اسم وتدريبه ونشره وجعله مكرسا ومقرؤوا، ثم تتخلى عنه بهذه السهولة، ولأن قدر البيت أن يفتح بيوتا. يمكن صحافيا أن يبدأ مهنته وينهيها في مجلة مثل نيويوركر من دون أن يشعر أنه بحاجة إلى تجربة أخرى أو أن يغرق في تلك المشاعر القاسية بالغبن وعدم التقدير التي يصاب بها مطلق موظف حين لا توجد إدارة جيدة.
بدلا من تصدير كادراتها مجانا، كان عليها أن تكون خلاقة بما يكفي لأن تتوسع بهم وعبرهم، وتظل تستوعب من يجد فيها بيته، ومن تجد فيه الموهبة الكافية لأن يكون كاتبا وصحافيا. لكنني أحملها أكثر مما تستطيع. لن تقاوم إلى الأبد السائد اللبناني المنهار تماما، والذي ينهار على مدار اللحظة وبينما هذا السطر يصل إلى نقطته. ليس التوقف المؤلم للسفير عن الصدور، إذا وقع، مسؤولية ناشرها الاستاذ طلال سلمان. ليس مضطرا أن يبقي هذه الجريدة فقط كي يسد حنينا إليها. لديه موظفون لن يدفع لهم في آخر الشهر نسخا من العدد ليستمتعوا برائحة ورقها. وتحول “السفير” من ملكية عائلية إلى مؤسسة يفترض أن يتحقق قبله هذا الحلم ليس على صعيد الاحزاب فحسب بل على صعيد مفاهيم الدولة والمجتمع معا.
مع ذلك، كان عليها أن تفكر بالناس وتثق بهم قبل أن تفكر بمراكز القوى السياسية والمالية. كان عليها أن تغريهم بشرائها بألفي ليرة لسببين: أولا لأنهم يثقون بأنهم سيجدون ما يقرأونه فيها، وثانيا كفعل وفاء للجريدة. فعل الوفاء هذا أساسي. المحطة الاذاعية التي لا استمع إلى غيرها في واشنطن اسمها اذاعة “الجاز والعدالة”. ترفض بث اعلانات كما ترفض أي نوع من المال غير أموال المتبرعين. وهي تعيش منذ عقود على أموال المستمعين فقط، مقابل أن تقدم لهم إعلاما حرا وأمينا لقضاياهم. هل تطرح السفير فكرة كهذه؟ أن تكون ممولة من القراء فقط؟ لكن جزءا من أزمتها هو عدم دعم قرائها لها. لم تعد الجريدة تجد قارئا يشتريها لا لكي يقرأها، لأن قراءتها على الهاتف أفضل، بل يشتريها كفعل دعم لها، وفعل وفاء. لن تجد هؤلاء القراء لأنها، على ما أظن، لم يعودوا أولوية بالنسبة إليها. الأولوية تقع في مكان آخر، يبدو أنه ليس وفيا بما يكفي ليحافظ على السفير.
أما وقد حاولت في ما حاولت أعلاه وهو ليس ناجزا ولا دقيقا ولا صحيحا بالضرورة، يبقى لي ما يخصني من جريدتي.

إقرأ أيضًا: وداعا للصحافة الورقية اللبنانية!‏

معظم صداقاتي التي ذهبت عمرا، صنعتها في المبنى ذي الطريق المسدود. وفيها التقيت منال. كانت بابي إلى بيروت بما هي مدينة. وكانت بابي إلى فعل ما أقول أنه الشيء الوحيد الذي أحب فعله، أي الكتابة. كانت حياتي. وسأظل أفتقد اسمي مطبوعا في آخر نص أكتبه لها. وأعلم أن الكتابة فقدت الكثير من روحها حين لم تعد للسفير، لعدد الغد منها بالتحديد. كانت تجربة أعرف الآن كم كانت جميلة وقاسية وكم أدين لاسمها وهو مطبوع بحرفه ويمامته البرتقالة في ذهني. أقول إنها مثل فيروز وزياد الرحباني والحمرا والكورنيش ولا أبالغ. أما سنواتي في غرفها وبين أدراج طوابقها، فاحتفظ بها لنفسي بحلوها ومرها. ولا يبقى لقلبي إلا الانقباض وأنا أفكر بأن يوما ما سيأتي لا تصدر فيه السفير في المدينة لتقول لها بحب وصدق صباح الخير يا بيروت.
كم هذا حزين يا مدينة.

السابق
الذهنيّة الداعشيّة ليست حكرًا على أحد
التالي
حين طلب مقاتل تنظيم «الدولة» الإذن بالتدخين