رحل المسيح ثانية… تحية لروح المطران غريغوريوس حداد…

رحل المسيح ثانية ، أو رحل "غاندي" لبنان المطران الأحمر، فالموت الذي لا يفرق بين الأخيار والأشرار، اختطف من فراش الطمأنينة الكامن في زاوية الغرفة "115" في بيت السيّدة ، المطران غريغور حداد .

غريغور رجل الدين الجدلي، أب الفقراء و يسوع الشباب، كان صورة حية للدين والدولة، للعبادة والمدنية، للأخلاق والممارسة!

اقرأ أيضاً: كيف نحرِّر الدعوة العلمانية اللبنانية من نبيِّها غريغوار حداد؟

لم يكن حداد كاهناً تقليدياً ، بل كانت له شريعته الخاصة المبنية على الفلسفة والمنطق والإصلاح، وكانت له أراؤه الخاصة التي أراد من خلالها وطناً لا كنيسةً، وشعباً لبنانياً لا قداساً مسيحياً.
آمن “أبونا” بالعلمانية كما فهمها هو وشرحها، لا كما سوّق لها الضعفاء ودعا إلى لبنان علماني، ولم يتردد في انتقاد المؤسسة الدينية التي ابتعدت عن الإنسان وهمومه وأوجاعه .

لمن يجهلون من هو المطران الأحمر، فقد ولد سنة 1924 في سوق الغرب من عائلة بروتستانتية متحدرة من أصل ارثوذكسي سمّاه والده نخله وعندما سيم كاهناً سنة 1949 بعدما درس اللاهوت اتخذ اسم غريغوار تيمناً بالبطريرك غريغوريوس حداد.

اُنتخب حداد مطراناً اصيلاً بعد وفاة المطران فيليبس نبعه، في حينها أخذ البعض يتململون من بساطته وفقره وافتقاره الى مظهر الأبهة ، فهو كان واحداً من المطارنة الذين وقّعوا وثيقة يتعهدون فيها ممارسة الفقر في حياتهم الشخصية.

في العام 1957 أسس “الحركة الاجتماعية”، التي حازت الرخصة في العام 1961 وتألفت لجنة تأسيسها من ستة شبان وشابات ينتمون الى الطوائف المسيحية والاسلامية الكبرى في لبنان وهي منظمة غير حكومية، طوعية، لا حزبية لاعقائدية، ولا تدّعي التمنين بالاحسان، هي حركة تفكير وعمل جماعي علمي يلتزم التنمية الاجتماعية الاقتصادية و ذات دوافع ذاتية، متكاملة، مصممة لخلق انسان اكثر انسانية ومجتمع اكثر انسانوية.
اتهمت بعض الاوساط الحكومية في حينها هذه الحركة بأنها تريد خلق دولة ضمن الدولة، كما سمّاها اليسار حركة اصلاحية فأخذ عليها أنها تصرف الشبيبة عن العمل السياسي، او تمتص النقمة الشعبية.
اهتمام الأب غريغوار بمجمل القضايا الوطنية لم يمنعه من العمل الحثيث على اصلاح احوال الابرشية اصلاحاً جذرياً، هذه الابرشية التي تضم عشر رعايا في بيروت وعشراً في ضواحي بيروت وعشرين في جبل لبنان.

غريغوار حداد
بعد مرور 25 سنة من الخدمة، قرّر المطران تأسيس مجلة “آفاق” مع صديقين له هما بولس الخوري وجيروم شاهين الذي ترأس تحريرها، وباشتراك عدد كبير من المثقفين اللبنانيين كمستشاري تحرير.
اتخذت هذه المجلة موقفها بمساندة المسحوقين ، واعلنت التزامها السير نحو التحرير وكانت كتابات الاب غريغوار تُدخل على المجلة عنصراً جديداً يختلف عن كل ما في غيرها من المجلات غير أنّه وبعد صدور ستة أعداد منها نشأت أزمة بين المطران وكنيسة الروم الكاثوليك التي لم يعجبها فكره فحاولت تهميشه بعد أن فشلت في إدانته أمام الفاتيكان، في حينها قرر حداد الابتعاد عن الكهنوت والتفرغ للعمل الاجتماعي .

الأب غريغور حداد أو مطران الفقراء كان جسراً جامعاً بين الأديان، فهو الراهب المسيحي الذي يمثل بالنسبة للمسلم دينه، وللمسيحي “يسوعه”، وللبناني حلمه بقيام المواطنية والدولة العلمانية.
لم يستطع شيئ ان يوقف المطران الأحمر عن متابعة مسيرته لا كنيسة الروم الكاثوليك التي حاربت كتاباته وأفكاره، ولا الصفعة التي تلقاها عام 2002 من المتشدد المسيحي الذي لم يستطع هو ومن خلفه منع فكر الأب غريغور من اتخاذ سبيل النور أو حظره من الظهور والتحاور في برنامجه عبر قناة “تيلي لوميار”، فما كان منه إلا الإعتداء عليه وأمام عدسات المصورين.
المطران حداد لم يمنعه شيء عن إتمام رسالته، فهو صورة الإنسان كما أرادها الرب وهو نبي الفكر والوطن، وهو بممارسته من يمثل الزهد المادي لا المعنوي ولا الفكري، وفقر المال لا فقر العقل والدولة…

واليوم وللأسف وفي ظلامية الدين والتطرف والنظرة التعصبية، كم سنفتقد بهذا الرحيل الخاطف مطران الأخلاق والشباب والوطنية، وكم سنسأل الذين خضعوا سياسياً لرجال دين من كافة الطوائف والمذاهب، أين أنتم من الرؤيوية التي حملها أب الفقراء؟
فأبونا قد انتقل أمس إلى السماء ولكن سيظل حاضراً مطراناً وطنياً عابراً لكافة الأجيال، وستظل تعاليمه وأقواله كتاباً مقدساً يتبعه الشباب الأحرار الذين آمنوا بالوطن والتعايش والذين تعمقوا بالدين كما قاله يسوع وكما أتى به الأنبياء.
غريغور حداد الذي لم يكن في مسيرته التي دامت 91 عاماً مطراناً مسيحياً، بل كان للمسلمين ولكل اللبنانيين رجلٌ “حالة” يمثل الاعتدال والانفتاح والفكر التي افتقده الكثيرون ممّن ادعوا أنهم حملة الكتاب.

اقرأ أيضاً: العَلمانية هي الحل.. وليس فصل الدين عن الدولة

سلام لروحك مطران الفقراء، سلام لروحك… غريغور حداد.

السابق
نتائج الاستبيان التي نظمتها شؤون جنوبية في منطقة الجنوب
التالي
وزارة الصحة أقفلت محلاً للحلويات في بصاليم