إذا الثورة سُئِلت

محمد علي مقلد

إنهم بشر عاديون، يشبهوننا “شبان لا يختلفون عنا بشيء، يتألمون مثلنا، يأكلون مثلنا، يتغوطون مثلنا، يعيشون مثلنا”(أسعد ذبيان). لكنهم يرثون ما لا يرثه سوى قلة من أبناء العائلات اللبنانية. إنهم يرثون السلطة. تربعت سلالاتهم على عروش الحكم مع أنهم لا يتفوقون في شيء على مئات العباقرة اللبنانيين من الأطباء والمهندسين ورجال المال والأعمال وفقهاء القانون والفنانين والمثقفين والمبدعين وسائر المقيمين أو المهاجرين المتحدرين من أصل لبناني، ممن ضيّق عليهم نظام الوراثة سبل العيش في وطنهم ورماهم في غياهب الغربة.
إنهم بشر عاديون، يشبهوننا. كل ما نريده منهم، لكي نحبهم ونحترمهم، كما يتحابب البشر ويحترمون بعضهم بعضاً، هو أن نكون متساوين في المواطنية. أن يتساووا بنا ونتساوى بهم تحت سقف القانون، وألا ينتهكوا أحكام الدستور فيسلكوا سبيلا للترقي الاجتماعي والسياسي من خارج مبدأي الكفاءة وتكافؤ الفرص. ولا نريد أن نغصبهم بشيء ولا أن نتمايز عنهم بشيء، لكننا لا نقبل أن يغصبونا بشيء أو أن يتمايزوا عنا بشيء من خارج المعايير التي تشرّعها القوانين.
لا نحن كنا أبرياء ولا هم. لا نحن ملائكة ولا هم شياطين. لعبة ارتضاها الطرفان، الزعماء بالوراثة والجمهور بالولاء الأعمى، والأحزاب بوصفات ثورية مدمّرة لا تعرف من أدوات التغيير وإيديولوجياته غير العنف وإلغاء الآخر. والقوى السياسية ترمي مؤيديها ومحازبيها وأتباعها ودهماءها أمام أسئلة مغلوطة، ومن المستحيل عليها وعلى سواها أن تقدم إجابة صحيحة عن سؤال مغلوط.
من بداية الربيع اللبناني، عام 1975، ونحن منقسمون على تلك الأسئلة المغلوطة. تحرير فلسطين بالعنف المسلح أم بالتسويات، كل فلسطين أم أشبارٌ محررة من أرضها، التغيير بالانتخابات أم بالثورة، مع أي من المعسكرين، الشرقي أم الغربي، مع الرأسمالية أو مع الاشتراكية، مع هذا الاقطاعي أم مع ذاك، مع السعودية أم مع إيران، مع السعودية أم مع تركيا، وحديثاً مع السعودية أم مع قطر؛ مع سايكس بيكو أم ضده، مع أمة عربية واحدة أم مع أوطان ، مع أوطان موحدة أم مع التقسيم، مع الممانعة أم ضدها، مع المقاومة أم ضدها، مع القوات أو مع عون، مع أمل أم مع حزب الله، مع الولي الفقيه أم مع الوهابية، مع التدخل الروسي أو مع التدخل الأميركي أو التركي أو الايراني، مع 14 أو مع 8 آذار؛ واليسار الذي انقسم طويلاً بين اللينينية والتروتسكية والماوية، توزع لفترة بين الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي، ويتابع تبعثره اليوم بعد تضييع البوصلة، إلى آخر سلسلة الانقسامات والاصطفافات التي كانت قد بدأت بانشطار اللبنانيين بين مؤيد للثورة الفلسطينية ومعاد لها، بين الحركة الوطنية اللبنانية والجبهة اللبنانية.

ثورة الارز
الجمهور اللبناني، الجمهور الذي يملك مستوى عالياً من الوعي السياسي، والذي يتخرج من صفوفه عباقرة ومبدعون في كل مجالات النشاط البشري وفي كل قارات الأرض، والذي قاد ثورة ضد النظام الطائفي وثورة ضد التجاوزات الفلسطينية، والذي حرر الوطن من الاحتلال الاسرائيلي ومن الوصاية السورية، هذا الجمهور ذاته الذي شيع بمئات الآلاف خليل الجمل، أول شهيد لبناني من أجل فلسطين، والذي تظاهر تحت المطر من أجل الدولة العلمانية والذي ملأ الساحات ضد فساد السلطة، هذا الجمهور يستسهل أن يكون وقودا للثورات الموؤودة، أو مجرد رعية عند الراعي سليل البيوت والزعامة الموروثة والميليشيات، أو دمى على مسارحهم، وفي الانتخابات يتحول إلى أرقام صماء في صناديق الاقتراع، إلا من يتمردون وينأون بأنفسهم ويرمون المشهد بالصراخ والشتائم. ثم تسدل الستارة على مشهد جديد.
لقد فاضت مراراتنا عن الحاجة إلى تعلم دروس مفيدة، ولا يكفي أن نعزي أنفسنا بالقول الشهير “إن الثورات يخطط لها العقلاء ويقطف ثمارها الجبناء”، ولا يليق بشعب يملك هذا الحجم من الكفاءات وقدم هذا الحجم من التضحيات من أجل بناء الوطن أن يرضى بإنهاء دوره في الدراما اللبنانية، كلما فتحت الستارة عن مشهد في مسرحية التسوية.
أجيالنا الشابة التي لم تتأخر عن تلبية النداء كلما دعاها الواجب الوطني، مدعوة اليوم إلى انتزاع دور لها في اختيار رئيس الجمهورية اللبنانية. صحيح أن الجماهير التي ملأت الساحات في التاسع والعشرين من آب لا مكان لصوتها في صناديق الاقتراع، لكنها تمكنت، من غير أن يكون لها موقع في مركز القرار، من إرغام سلطة الفساد على وقف الحلول التحاصصية في مسألة النفايات، وفرضت نفسها مفاوضاً أساسياً في البحث عن حلول، وبدت الطرف الوحيد الذي يبحث عن سبيل للمعالجة بمنهج علمي وبعيداً عن المصالح الشخصية.
الأهم من ذلك أن القوى السياسية جعلت انتخابات الرئاسة عملية لا تقررها آليات الاقتراع وفوز الرئيس لا تحسمه أصوات الناخبين، بل يتحدد بقرار خارجي ينفذه برلمان ليس في عير التشريع ولا في نفير المحاسبة، ويحصر دوره بطاعة التعليمة الخارجية، كما في كل مرة. وإذا كان ذلك كذلك، فإن تأثيره في اختيار الرئيس أقل شأناً بكثير من دور الرأي العام الذي بإمكانه أن يعبر عن نفسه، بينما البرلمان ممنوع من النطق، ومنشغل أعضاؤه بتعقب المعاملات وتقديم التعازي وحضور الحفلات.
أجيالنا الشابة مدعوة إلى استئناف الحراك المدني، إلى استئناف الربيع اللبناني، إلى ولوج الثورة من باب جديد، من بابها السلمي، إلى رفع الصوت عالياً في وجه مجلس نيابي ارتضى أن يغيب عن مسرح التسوية متخلياً عن الدورالمنوط به، إلى المطالبة بحقها في صوغ شروط التسوية، إلى جعل الحراك المدني عنصراً فاعلا في التسوية لا متفرجاً عليها، مثلما هي حال البرلمان.
نحن لا نطالب بغير الاحتكام إلى الدستور. من حق العائلات والسلالات أن تتوارث المال والجاه والثروات المالية، لكن من غير حقها أن تتحاصص الوطن وثروته البشرية. لنا شرطان على أي مرشح للرئاسة، الأول احترام أحكام الدستور وحماية السيادة الوطنية، بما هي سيادة القانون، على الحدود وداخل الحدود. والثاني سن قانون للانتخاب يعتمد لبنان دائرة واحدة على أساس النسبية. النسبية تحفظ لكل صاحب حق حقه، ولاسيما الوراثة، والدائرة الواحدة تحول دون المحاصصة. بالنسبية والدائرة الواحدة يصير النائب نائبا عن الأمة، وبهما ننتقل من الدويلات إلى الدولة.
يكون الحراك المدني شريكاً في التسوية وفي الاتفاق مع أي مرشح يلتزم بالعمل على تنفيذ هذين البندين.

(المدن)

السابق
الجيش: 7 عسكريين جرحى في عملية دهم منزل المطلوب محمد حمزة في دير عمار
التالي
ماذا قال وليد بك عن باسم يوسف..