دولة المواطنة

أشعر برغبة دائمة في الحديث عن الجنوب، جنوب الوطن، هذا الجنوب الذي يغلب عليه منذ سنوات لون واحد، وتبقى ألوانه الأخرى كامنة.

اقرأ أيضاً: المستبد يفاجئه سقوطه!

كان منفتحاً قلباً وقالباً، مفتوحاً على ذاكرة ينقّيها باستمرار، وحلم كلما كان أكثر شراكة، كان أكثر جمالاً ومشروعية. وكانت المدرسة الرسمية مفخر الاجتماع ومصنع الدولة، وقد جمعتنا وحضنتنا وأتاحت لنا أن نتثاقف ونتعارف ونتمازح طلاباً ومعلمين.
كان معلمي الأول الذي أحبني وأحببته وما زال وما زلت، مسيحياً مواظباً على الطقوس، واكتشف أني أتمرّن على طقوسي بصورة متقطعة، فرغّبني بالمواظبة.
وقبله وبعده كانت جدتي المتديّنة بنت المشايخ، لا تثق في أعمال النجارة إلا بالمعلم جان، الماروني من النبطية، الذي أصبح صديق العائلة بسببي. وتعرفت إلى المسيحية والمسيحيين أكثر عندما أصبح إسلامي، أكثر روحانية، وأغنى فكرياً وأدبياً.
وعندما جاءت الحرب، عشت قلقها، وانزلقت إلى مواقف طائفية كثيفة، ثم عدت عنها، ثم عدت إليها، ثم تبت توبة نهائية، مغتنماً بين الذنب والتوبة، فرصة لإثبات وطنيتي وإنسانيتي، بالحوار والتدخل في حلّ اشكالات وردّ مظالم، مظالم اعتداء المتطرفين اليساريين واليمينيين، بحجة وبذرائع طائفية، على أرواح وأملاك وحريات الآخرين.
ثم عدت تدريجاً إلى وعيي وديني، وأصبحت هذه الرجعة قريبة من التمام الذي لن تبلغه، ولكنها تحاوله.
وعندما عشت في إيران، عشت وطنية الإيراني، التي عالجتني أو تسببت في بحثي عن علاج للجنوح الخفيف إلى التعصب الديني، الذي اعتراني في لحظة إحباط.

هاني فحص والخميني
ثم كان اتفاق الطائف فقلنا هذه بداية. واخترعنا المؤتمر الدائم للحوار اللبناني، وكانت سنوات خرجنا منها بشهادات تخصص في الحوار، وشهادات تقييم منصف لمسلكنا في بناء العيش المشترك. واتفقنا على أنه ليس هناك إسلام واحد، ولا تشيّع واحد ولا مسيحية واحدة، وهناك توحيد، وهناك وحدة، وكل منهما في حاجة إلى صيانة وتعبير مطابق، وسجّلنا طموحنا النهائي والدائم، إلى لبنانية تجمع منهجية عميقة ومرنة واستيعابية، ومن دون تلفيق بين الأديان أو بين المذاهب. ورأينا أن ذلك لا يتم، إلا إذا تشاركنا على طريق بناء دولة نتشارك في تجديدها والتجدد بها دائماً، وبالحوار الدائم.
وكنا نعني دولة المواطنة. مطمئنين إلى أنه إذا كان هناك كثير مما يجمع المسلمين مع المسلمين، والمسيحيين مع المسيحيين،. فإن ذلك لا يمنع من تمايز بينهم تتجلى فيه الحرية ويحرسه القانون مع الطمأنينة المماثلة، ومطمئنين إلى أن الكتابية أي النصاب المعرفي والإيماني، الذي يجمع بين المسلمين والمسيحيين غير قابل للتفكيك والإلغاء. وما على حراس الهياكل إلا أن يحرسوها من بعضهم البعض، لا من المؤمنين برب الهيكل.

اقرأ أيضاً: رسالة إلى ثوار سوريا

وإن كانت مداخل المؤمنين إلى قلب الهيكل مختلفة فإن كل الدروب تفضي إلى الطاحونة، حيث الحَبّ للطحين والحُبّ للحياة.

(من كتاب على مسؤوليتي – منشورات صوت لبنان)

السابق
نصرالله «ضابط الإيقاع» الشيعي.. فأين ضابط الإيقاع السنيّ؟
التالي
لماذا أخافت جريمة برج البراجنة حزب الله؟