«التنوير».. سبيلُنا لمواجهة الأصوليات

منذ بداية العام الهجري الجديد، عمليتان إرهابيتان واحدة تلو الأخرى، تستهدفان المواطنين الأبرياء في المملكة، وكما العادة، تتبنى “داعش” المسؤولية، معلنة وعيدها ونذيرها تجاه من تعتبرهم “مشركين” و”أهل ضلال”.

إن نظرة الجماعات الأصولية تجاه الناس قائمة على التصنيف الديني والمذهبي. أي أنها تلغي الجنبة الإنسانية أولا، والقانونية ثانيا، لتغلب النظرة الضيقة القائمة على الفرز الديني، معيدة إنتاج المقولة الشهيرة “إن لم تكن معنا، فأنت ضدنا”.

هذا الفرز الذي يتنافى مع إنسانية الفرد وكينونته، ومع مفهوم الإنسان ومركزيته في الفلسفات الحديثة، كما ينسفُ مفهوم الدولة الوطنية، يعود لطبيعة الخطاب الديني التاريخاني الذي تنطلق منه الجماعات الأصولية. وهو خطاب لا يعتد ب”مفهوم الدولة”، ولا يرى قيمة ل”الفرد” إلا بمقدار قربه من “التدين” أو بعده منه. و”التدين” هنا لا يحضر بمعناه المطلق السماوي الرباني، المرتبط ب”الدين” كمفهوم عام ينظم علاقة الإنسان بخالقه. وإنما بالمعنى المؤدلج والمسيّس للكلمة. أي أن “التدين” هنا مشروط بمطابقته لشروط هذه المجموعات الراديكالية وتعريفهم له.

من هنا، فإن عمليات القتل والتفجير، لم تستهدف المسلمين الشيعة والإسماعيلية في المملكة وحسب، بل طالت المسلمين السنة أيضا. ونظرة سريعة لتاريخ عمليات “القاعدة” و”داعش” توضح هذه الحقيقة. ما يؤكد حقيقة أن “التكفير” كمنهج لدى هذه المجموعات هو سلوك ذو مراوحة واسعة، ومفهوم فضفاض، يطبق بسهولة على كل فرد مخالف لهم.

إن التعويل على حدوث تغير في فكر هذه المجموعات التكفيرية أمر متعذر، بل يقارب الاستحالة، كما أن تمني أو توقع أن يتبدل خطاب الكراهية والتحريض لمجموعة من الوعاظ والدعاة في الأمد المنظور، هو أيضا أمر غير متوقع؛ لأن هؤلاء الوعاظ ببساطة لا يبحثون عن الحقيقة العلمية، أو يبتغون مرضاة الله، أو يرومون الحفاظ على استقرار الوطن وسلامته، بل جلُ ما يسعون له هو النمو المتزايد لأعداد متتبعيهم في وسائل التواصل الاجتماعي، والجموع الغفيرة من الناس الذين يأتون بعقل مسلوب لينصتوا لهم، دون إعمال للعقل أو مساءلة هؤلاء الدعاة عن مآلات خطابهم ودوافعه السياسية والشخصانية.

إن التغيير الحقيقي في المجتمع لا ينتظر أن يكون على يد هذا النوع من الدعاة الفاقدين للأهلية العلمية والمناقبية الأخلاقية. وإنما يجب التعويل على العقل و”التنوير” كسبيل للخروج من دوامة العنف المستشري.

من جهة أخرى، تكمن المشكلة أيضا في “خوف الغالبية العظمى من الناس، من التقدم نحو رشدهم، معتبرين إياه عملا خطيرا وصعبا في الآن ذاته”، كما يقول إيمانويل كانط. وهو برأيه ما يجعل “الأوصياء يعملون بكل ما أوتوا من قوة، وبشفقة كبيرة، على ممارسة الوصاية على الإنسانية”. وهي الوصاية التي تستغل حب الناس الفطري ل”الدين” وانجذابهم له.

هذا الخروج من وصاية خطاب الوعاظ المحرضين على الكراهية والعنف، يتطلب شجاعة كبيرة، وشعورا جوانيا بالقوة والقدرة على الاستقلال. وأن الواحد منا يجب أن يكون سيد نفسه، وأن يدير أمره بعقله، دون أن يعيره إلى أحد سواه.

قوة الخطابات المتطرفة تكمن في تمكنها من تقييد العقول والأنفس. وحينئذ نشعر بالحاجة الدائمة لها، وبأننا لن ننجح في الدنيا ولن ننجو في الآخرة من دونها، وهو غاية مرادها في أن نكون قطيعا يسير بفرح وحبور نحو هاويته!.

التنوير، وحده لا سواه، ما يمكن أن يحرر العقول، وهو مهمة الدولة بمؤسساتها ومن خلال دعم مؤسسات المجتمع المدني، والمبادرات الأهلية ذات الطابع التحديثي ليبرز عبرها تنوع المجتمع وتعدد عقوله، وهي العقول التي بقدر ما كبرت وقويت، بقدر ما هُزمت “داعش” وتلاشت أخواتها.

(الرياض)

السابق
الطقس غدا: غائم جزئيا وارتفاع في الحرارة
التالي
سليمان ووزراء ونواب وشخصيات عزوا شبطيني بنجلها سيريل