ميليشيات الحراك المدني

محمد علي مقلد

حين يذكر اسم أحمد بيضون على مسمعي تحضر في ذاكرتي صور بهية عنه. صورة اليساري سليل العائلات والزعامات. كنا ننظر إليه بإعجاب واحترام كبيرين، ونستغرب كيف أنه تخلى عن علو المقام الاجتماعي والسياسي واختار أن يكون “مناضلاً”، في صفوف الكادحين؛ صورته يوم كنت أناقش رسالتي الجامعية وسمعت رئيس لجنة المناقشة، البروفسور دومينيك شوفالييه، يذكر إسمه كواحد من أهم خريجي جامعة السوربون من اللبنانيين. الثالثة، يوم تباهينا به واحدا ممن نقترحهم لرئاسة الجامعة اللبنانية، أمام سلطة لا يناسبها استاذ بمستوى كفاءته الأكاديمية والاخلاقية، لأن هذه المعايير لم تكن تعنيها بقدر ما كان يعنيها أن يكون رئيس الجامعة مطابقا لمقاييس المحاصصة والانتهازية والتسكع على باب الحاكم. أما الصورة الرابعة فقد ذكرني بها البارحة شباب من الحراك المدني، وهم يناقشون أحمد بيضون في نص كتبه على صفحته بعنوان ” ما علمتم وذقتم”.

أعادني هذا النقاش إلى جلسة حول كتاب نشره منذ أكثر من ثلاثة عقود، نبهنا فيه إلى ويلات الحرب، وكنا لا نزال متحمسين لكل أنواع الحروب، مدفوعين بحمية الدفاع عن القضية والأمل بتحرير الأرض والثقة بالكفاح المسلح. كتابه الصادر في أوائل ثمانينات القرن الماضي عنوانه “ما علمتم وذقتم”، وهو، لمن لا يعرف من مناقشيه، مستعار من معلقة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، التي مطلعها: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم…بحومانة الدراج فالمتثلم، وفيها مقطع ينهى عن الحرب، وليس عن الفحشاء والمنكر، يقول فيه الشاعر، وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ، وما هو عنها بالحديث المرجّم. بعض المتحمسين للحراك المدني تعاملوا مع نصه تعاملهم مع أي نقد، بسلبية مفرطة، منطلقين من أن الحراك حق مقدس لا يطاله النقد ولا التشكيك، ومن فرضيتين خاطئتين، ترى الأولى أن الحراك صناعة شبابية يتولاها جيل في العشرينات والثلاثينات من العمر، وتستبعد منها أجيال أخرى، ولا سيما من تنتمي إلى بدايات الحرب الأهلية، فيما تقوم الثانية على مفاضلة بين حكمة الشيوخ وشجاعة الشباب وتنحاز للثانية، وتستبعد الأولى من كل شيء، خصوصاً إذا كانت رأياً أو نصيحة من “مثقفين يتأستذون على أبطال الشوارع والساحات”، ما جعل “مناضلين” من الشباب يتطاولون على قامته الثقافية والنضالية العالية، رافضين منه، بصفته واحدا من أبناء “جيل الحرب ذي التجربة الفاشلة”، نصيحة أو نقداً أو مشاركة في الحراك أو حتى في النقاش. تحضر في الذهن أقوال مأثورة كثيرة من بينها قول المتنبي، الرأي قبل شجاعة الشجعان، هو أول وهي المحل الثاني، ومنها قول شهير لنابليون يميز في الثورة بين “حكماء” يخططون لها وشجعان يخوضون غمارها.

كما تحضر حقائق ساطعة عن ثرثارين لا يصنفون بين الحكماء ولا بين الشجعان، ممن لا يعرفون دور الأفكار في صناعة التاريخ، وممن تربوا في رحاب أحزاب تحتقر الثقافة والمثقفين وتصنفهم “خونة لطبقاتهم”، ممن لم يقرأوا ما قاله غرامشي عن المثقف العضوي، وما قاله حسن حمدان \مهدي عامل عن المثقف الثوري، ويجهلون أن أول مكتب سياسي بعد الثورة البلشفية كان يضم مجموعة من الفلاسفة، وأن لينين كان يقرأ كتاباً في اليوم، وأن الثورة الفرنسية تخيلها ومهّد لها رواد الفكر والعلم والثقافة، وأن الثورة البلشفية خرجت من كتاب رأس المال ومن بيان صاغه ماركس وأنغلز.

ما يستدعي هذا الكلام أخطاء فادحة يرتكبها بعض أهل الحراك المدني بحق الحراك، ويهددون بها مصيره، كأنهم في ما يقترفونه، يشاركون المندسين وأهل الفساد المالي والسياسي، في تخريب هذه الحركة النضالية الناهضة، وهي أخطاء يرقى بعضها إلى فائض في الحماسة وبعضها إلى عدم خبرة وبعضها إلى التعلم من دروس الحرب بالمقلوب، وبعضها إلى الخروج على آداب الحوار وانتهاك القيم الأخلاقية. ما يحصل يجيز لنا أن نطرح السؤال، من الذي يمثل جيل الحرب، أهو الذي يدعو إلى التعلم من دروسها والتنبه إلى مخاطرها وإلى مخاطر استخدام أي شكل من العنف، “وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم” أم الذي ينشد “العقل المستقيل”، ويجرب عضلاته المفتولة في شارات السير وواجهات المحلات وبلاط الشوارع، ولا يرى في الثورة غير العنف؟ جيل الحرب هل هو الذي تعلم من دروسها أم الذي يدعو إلى تكرار التجربة بتخريب المدينة وتدمير معالمها؟ بين صفوف الحراك المدني قلة من المندسين يتسللون لتخريبه وحرفه عن أهدافه الحقيقية، ودفاعاً عن أسيادهم من أهل الفساد والافساد، وفي صفوفه كذلك كثرة من الشجعان المتحمسين الذين جربوا الحرب ولم يتعلموا من دروسها، أو الذين لم يجربوها ويرغبون بخوض غمارها بأنفسهم ويرفضون أن يتعلموا من تجارب سواهم، وفي صفوفه بعض من ذوي العقول والميول الميليشيوية المسيئة للثورة وقيمها ومبادئها ولآداب الحوار الضروري بين مكوناتها. الحراك المدني ثورة على الفساد والمفسدين، يخشى عليه من اثنين، من مندس يتسلل مأجوراً ومن ميليشيوي أو جاهل يضمر للثورة من الحب ما يكفي لقتلها.

(المدن)

السابق
صفقة للناتو وصفعة للروس.. «إستفزاز» موسكو مجدّداً
التالي
كي لا يكون الشيعة أسوأ من داعش!