حكاية حبّ عراقية

البصرة العراق

بضع ثوان كانت كافية لتجعل أحمد النديّ مخلوقاً من حرائق ودخان، بضع كلمات سمعها من الطرف الآخر للهاتف كانت أشبه بسهم اخترق قربة الصبر في قلبه فأسال ما فيها من طمأنينة وسلام وأحلام كلها كانت في طريقها إلى عتبة بابه. رنة الهاتف لم تكن عادية هذا الصباح، ثمة شبه بينها وبين أصوات صفارات الإنذار التي خيّمت على سماء البصرة على مدى احتلالات لم تنته وحروب ما زالت مستعرة. سكون غير مألوف في كلام المتحدث على الهاتف. إنه سكون ما بعد الفجيعة، كذاك الذي يعقب انفجاراً في حي بغدادي ما.
يدني أحمد الهاتف من أذنه ثم يبعده، يضعه أمام عينيه، يحدق فيه، يكرر هذه الحركة أكثر من مرة في وقت قياسي. كأن الخبر الذي سمعه لتوّه أنساه وظائف حواسه، كأنه يتوسل حواسه مجتمعة لتساعد سمعه على استيعاب الخبر أو نكرانه في الوقت ذاته.
بعد لحظات طويلة من الذهول والتشتت، ينفلت صوت أحمد مثل نار تلتهم بيدر قمح ناضج، يسأل شقيقه المتصل: رهام…شبيها رهام، علاوي؟”. يأتيه الجواب سريعاً، فيصرخ: “يووه يا قليبي”.
يدوّي صوت أحمد في أرجاء الورشة، فتهدأ حركة العمال، يتوقف مراقب العمل عن إصدار أوامره التي لا تنتهي، تنطفئ محركات الماكينات، ويضع كل منا حمله. طائر الموت يحلّق فوق رؤوسنا الآن.
يعود أحمد إلى الهاتف، يترجّى شقيقه تكذيب خبر موت زوجته رهام، وعلي يؤكده، يطلب منه ألا يكون قاسياً، أن يرأف بحاله، بحال طفله الوحيد. يتمنى عليه أن يقول إنه أخطأ العنوان. وعلي يجيبه أن الفاجعة وقعت، ولا مهرب من مواجهتها، الله لم يردّ القضاء، ولم يتلطّف فيه. فيتهاوى جسد أحمد فوق أرض الورشة مثل شجرة نخيل أعياها الجفاف.
نهرع كلنا صوبه، تختلط أصوات نداءاتنا بصوت أنينه المكتوم، بصوت حسرته الصاخب، أضع يدي تارة على قلبه وتارة أخرى على أنفه، مازال فيه بعضُ نفس. أحدهم يسكب ماء بارداً على وجهه فينتفض، يعبّ قليلاً من الهواء فيرتفع صدره وينخفض. يستيقظ من ذهوله، يفتح عينيه، وينهرنا، يصرخ بنا أن نتركه يموت، ألا نوقظه من الموت الذي أصبح أمنيته الآن، بعد فقدان رهام. يبكي، ينتحب، يولول، ويضرب وجهه بكلتا يديه. تسيل دموعه على خديه المغبرين، فتحفر فوقهما خطوطاً بيضاء، لا ليست بيضاء، بل خطوط بلون القدر الذي خطف زوجته هذا الصباح، خطوط لا يختلف لونها عن لون البؤس الذي ولد فيه ويعيش فيه، عن لون التعب الذي يكابده في الورشة كل يوم، ولون الخيبة التي تتربّص به آخر الشهر عند احتساب أجر ساعات العمل.

الحب
تنهال عليه أسئلتنا، أعيننا تحاصره، تعريه، تربكه وتزيد من قسوة الخبر الذي وصله. يصرخ يائساً “لكْ رهام ماتت، رهام احترگت بالتنور وهي جاي تخبز للجهّال”.
لا أدري إن كنت أبالغ في القول إنني لم أكن أحسب أن أرى في حياتي رجلاً يفجعه موت زوجته مثل أحمد. لطالما سمعت جدتي تردّد مثلاً شعبياً “لبنانياً” يصف وقع خبر موت الزوجة على الزوج بأنه “مثل دقة الكوع بالحيط”، أي أنه مؤذٍ لكنه سريع الشفاء. ولا أظنني مبالغاً إذا قلت، إني وجدت في تفجّع أحمد على زوجته، تفسيراً نفسياً لتمسّك العراقيين بمعاني الحبّ الزوجي التي صارت في قاموسنا قيماً بسيطة مهملة، على أنّه تمسّك بالحياة ذاتها، على أنه نبذ لفكرة الموت اليومي.
لا شك في أن المرأة في العراق تعاني من الظلم والتمييز وعدم المساواة في مسائل الشرع والعرف، شأنها شأن كل النساء العربيات، إلا أن الحرب وما ينتج عنها من موت ودمار، جعل الرجل العراقي يتمسّك بها وبحبها، كمن يتمسك بجذع شجرة ليتقي قسوة تناقضات الطبيعة من حوله، حرّها وقرّها، شمسها اللاسعة، الحارقة، ورياحها العاتية، العاصفة. فلم تعد نصف دينه، كما يقول الموروث الديني أو شريكة كما الوصف الحضاري فحسب، إنما أصبحت وطناً له وسكناً.
في العراق المتخَم بالموت العشوائي، لم تتراجع الرغبة في الحب والحياة، بل ربما تضاعفت، وتقدّمت على كل ما عداها من رغبات إنسانية. كل الحلول السياسية والعسكرية والاجتماعية تنهار تباعاً أمام الموت في العراق، أما الحب فيقف صامداً، حيّاً، متحدّياً، يكبر في قلوب العراقيين، فيرخي على مساحة الوطن المفجوع ظلالاً من السكينة والرحمة.
يدرك العراقي أنه لا شفاء له من مرض الموت المستعصي إلا بالحب. لم ألتق بعراقي غير حالم، غير عاشق. في قلب كل عراقي تقيم امرأة واحدة في الأغلب. لا يفرط العراقي بمشاعره، فلا يوزعها على أكثر من امرأة، كأنه يخاف على مشاعره من التشرذم الذي أصاب وطنه، فيعصمها بواحدة. وكلما كان العراقي فقيراً ازداد حبه لامرأته، وتعلقه بها.
الحب هو السلاح الوحيد المتبقي للعراقيين لمواجهة الموت. وكلما أعمل الموت يده في حيواتهم، أزهر الحب في قلوبهم وتفتح وروداً ووعوداً نبيلة. الحب والموت يتصارعان على احتلال وجدان العراقي ومصادرة ذاكرته. الحب والموت هما الخياران الوحيدان المتاحان للعراقي، اللذان يتكاثفان في يومياته، لحظة بلحظة، كثافة التناقض الإنساني في معنييهما ودلالتهما.
تفجُّع أحمد على زوجته، رسم في خاطري ملمحاً حضارياً عن عراق مرتجى، عراق يعود إلى بداياته الأولى، حيث تبدأ حكاية الخلق من رحم امرأة، مصنع الحياة ونقطة بدايتها واستمراريتها. عودة ليست تراجعاً، أو انكفاء، إنما للبناء على جوهر البدايات البكر، التي أنتجت منعطفات حضارية، وتفاعلات حياتية ووجودية، علّ العودة تساعد في ترميم ما تهدّم في النفوس والقلوب والعمران والحقول والماء والفضاءات.

(السفير)

السابق
هشام حداد نسخة تافهة وهابطة ونموذج ركيك!
التالي
توقيف مزور عملة في محلة قدموس صور