لعبة الشطرنج الروسي ـ الأميركي على الرقعة السورية

روسيا وامريكا

يلقي اليوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد طول غياب. يقف بوتين اليوم أمام رؤساء الدول والوفود في الاجتماع الدولي الأكبر، بعدما أرسى واقعا جديدا في سوريا والمنطقة. بعدها، سيلتقي الرئيس الروسي مع نظيره الأميركي باراك أوباما للتباحث في مجموعة من المسائل والقضايا، تبدأ بسوريا ولا تنتهي عند أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا جراء الأزمة الأوكرانية. يشكل لقاء القمة اليوم بداية فصل جديد من العلاقات الروسية ـ الأميركية المفتوحة على احتمالات التفاهم والمقايضة، وبالقدر ذاته على احتمالات التصعيد والمواجهة. اختار بوتين أن يوجّه نقلة البداية في لعبة الشطرنج السورية، والآن يأتي الدور على نقلة أوباما التي ستعكس تفضيل واشنطن لأحد الخيارين.
وحتى يضفي بوتين المزيد من التصميم والصلابة على نقلته الأولى، فمن غير المستبعد أن تقوم القوات الروسية المتواجدة على الأراضي السورية بعمليات قصف جوي على مواقع تنظيم «داعش» في الدقائق التي يلقي فيها بوتين كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتوفير الموسيقى التصويرية اللازمة للخطة الروسية. لا يحتمل لقاء القمة اليوم إلا نتيجتين لا ثالث لهما ـ على العكس من الاحتمالات الثلاثة الممكنة للعبة الشطرنج: السير باتجاه تفاهمات روسية ـ أميركية خلال الفترة المقبلة، أو تصلب أميركي وغلق الباب على احتمالات المقايضة.
خطة بوتين
فرض بوتين واقعاً جديداً في سوريا واستطراداً في المنطقة، وهو واقع لم يتم بالتنسيق مع واشنطن بأي شكل من الأشكال كما تروّج بعض الدوائر في المنطقة لأغراض دعائية وليست تحليلية. في كل الأحوال، يستلزم فرض ذلك الأمر الواقع مواكبة ديبلوماسية لتقنينه والمقايضة به وعليه في قضايا أخرى تهم روسيا في جوارها الجغرافي المباشر. اليوم هي فرصة بوتين لتدشين الفصل الثاني من خطته، في حين كان تعزيز الحضور العسكري في سوريا خلال الأسابيع الأخيرة الفصل الأول من الخطة. وعلى الأرجح دار في مخيلة صانع القرار الروسي تاريخ انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة والمحدد سلفاً، عند اتخاذ توقيت القرار بتوسيع ذلك الوجود على النحو الذي نراه منذ أسابيع. بمعنى أن اليوم تاريخ انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة واللقاء مع أوباما سيسدل ستارة النهاية على الفصل الأول من الخطة، في حين ستتقرر أحداث الفصل الثاني وفقا لمعطيات اللقاء مع أوباما: التفاهم أم التصعيد.
حتى الآن، فرضت روسيا أمراً عسكرياً واقعاً مع الإحجام عن الانخراط في عمليات عسكرية فعلية كاسرة للتوازن على الأرض، بما يعني إبقاء الخيارات مفتوحة قبل اجتماع بوتين وأوباما. سيدخل بوتين اللقاء حاملا مقترحاً للتسوية السياسية في سوريا يمر عبر مرحلة انتقالية لا تشترط بقاء النظام السوري الحالي في نهايتها، كي يحفظ ماء الوجه لأوباما. ومن المتوقع أن ينفتح بوتين ـ في حدود ـ على مقترحات التنسيق العسكري مع أميركا لمقاتلة تنظيم «داعش» لمنع تصادم محتمل بين القوات الروسية وقوات التحالف الذي تقوده أميركا. وفي حال أحجم أوباما عن الدخول في مقايضات ترغبها روسيا، يمكن للقوات الروسية أن تستمر في قصف تنظيم «داعش» بوتائر أكثر فعالية مما حدث حتى الآن، باتجاه إمالة ميزان القوى على الأرض لمصلحة النظام السوري. وفي كل الأحوال، تعد الموافقة الأميركية على عقد لقاء القمة بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين إشارة واضحة على فعالية الوجود الروسي في سوريا بتحريك المواقف الأميركية باتجاه حلول وسط مع روسيا.
الحسابات الأميركية
لا يبدو ان أوباما يملك خطة واضحة متكاملة حيال المستجد الروسي في سوريا، وربما لا يملك أيضاً خطة واضحة حيال الأزمة في سوريا؛ وهو أمر يمكن استنتاجه من سياسة واشنطن الضعيفة والمترددة منذ اندلاع الحراك في العام 2011 وحتى الآن. تملك موسكو وطهران كلاهما أوراقاً مهمة للتأثير في قرار النظام السوري، والأخير لم يعد منذ سنوات هدفاً بحد ذاته أو بالأصالة عن نفسه، وإنما هدفاً بالوكالة لتحقيق أهداف أوسع تتخطاه والجغرافيا السورية. ربما يسأل مستشارو أوباما للأمن القومي أنفسهم: ماذا نريد أن نحقق في سوريا بالضبط؟ ويتفرع هذا السؤال الكبير إلى سؤالين فرعيين مهمين: هل تريد واشنطن تقليص نفوذ إيران في المنطقة عبر إسقاط حليفها في دمشق؟ أم تريد واشنطن تقليص النفوذ الروسي في الشرق الأوسط للحفاظ على تفوقها فيه؟
حتى الآن دعمت واشنطن وتحالفاتها الإقليمية (تركيا والسعودية وقطر) المعارضة المسلحة المعتدلة في حدود، فاستمرت الحرب الأهلية في سوريا من دون غالب أو مغلوب.. سوى الشعب السوري. ثم تغيرت الموازين مع دخول الفصائل الإرهابية مثل «داعش» و «النصرة»، حيث همشت حضور المعارضة المعتدلة إلى حد كبير، فأصبح بديل الأسد جهادياً حكماً، وهي نتيجة لا يمكن لواشنطن قبولها. ومع تردد أميركا في التعامل مع خطوطها الحمر المعلنة ـ استخدام السلاح الكيماوي ـ فقد تدخلت روسيا في العام 2013 لنزع فتيل الأزمة عبر تسليم السلاح الكيماوي السوري مقابل عدم توجيه ضربة أميركية للنظام. الآن على واشنطن أن تقرر هل تريد التخلص من الأسد أم من «داعش»، والتخلص من كلاهما يبدو أمراً غير ممكن في ضوء موازين القوى الجديدة على الأرض السورية.
ويعتقد خبراء أميركيون نافذين في واشنطن أن التخلص من الأسد لن يجلب السلام إلى سوريا، فالبديل سيكون داعشياً، إلا إذا التزمت واشنطن بقوات عسكرية على الأرض، وهنا ستتكرر تجربة أميركا في العراق. أما محاربة تنظيم «داعش» بالشراكة مع موسكو، فلن يضر بالمصالح الأميركية بالضرورة، حتى ولو وقعت سوريا في القبضة الروسية تماماً، خصوصا أن واشنطن تملك علاقات تحالفية مع كل الدول الواقعة في جوار سوريا الجغرافي وبالتالي مصالحها في عموم المنطقة ستظل مصانة.
ربما ستحاول أميركا تحويل الوجود العسكري الروسي المستجد في سوريا إلى صيغة رابح – رابح، والابتعاد عن المعادلات الصفرية التي لا تعرف سوى فائز بكل شيء وخاسر لكل شيء. الاعتبار الأخر الذي يدور في حسابات واشنطن أن الوجود الروسي المستجد في سوريا يهمّش أدوار القوى الإقليمية في إدارة الصراع السوري (مصطفى اللباد – السفير: روسيا تقلب الموازين في سوريا والمنطقة 21/9/2015)، ما يفتح نوافذ للفرص أمام واشنطن للعب على التناقضات الإقليمية. فمن ناحية، ستضطر تركيا والسعودية إلى القبول أكثر بوجهات النظر الأميركية حيال سوريا، لموازنة الحضور الروسي على حدودها الجغرافية. ومن ناحية ثانية، تشكلت ثغرة موضوعية بين روسيا وإيران حول سوريا ومن يمسك بقرارها ومن يفاوض باسمها، من جراء توسيع الوجود الروسي على الساحل السوري، وهي ثغرة ستعمد واشنطن إلى توسيعها في مقبل الأيام. في المقابل، ربما تعتقد واشنطن أن انخراط روسيا المتزايد في سوريا سيشكل فرصة للضغط عليها في كل الملفات واستنزافها في سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار موقفها الاقتصادي غير المتماسك جراء العقوبات الاقتصادية وتدني أسعار الطاقة الدولية التي تشكل صادراتها الأساسية.
الخلاصة
لا يحتمل لقاء القمة الروسي ـ الأميركي اليوم سوى نتيجة واحدة من نتيجتين لا ثالث لهما: التفاهم على الملف السوري والمقايضة مع باقي الملفات المهمة لروسيا، أو التصعيد في سوريا وأوكرانيا وجوار روسيا الجغرافي. لا حاجة لان تكون متمرّساً في الديبلوماسية كي تقرأ تصريحات المسؤولين الروس والأميركيين بعد اللقاء وتستكشف ما بين السطور وصولا إلى نتيجة اللقاء.
في كل الأحوال، كان الشهر المنصرم بمثابة الفصل الأول من الخطة الروسية، ونتيجة لقاء اليوم ستفتتح الفصل الثاني من الخطة. امتلك بوتين زمام المبادرة ونقلة البداية في لعبة الشطرنج السورية، واليوم يأتي الدور على نقلة أوباما التي ستعني التصعيد أو التهدئة. ومثل مباريات الشطرنج الاحترافية يملك الأبيض ميزة المبادأة والنقلة الأولى، في حين تشي نقلة الأسود الافتتاحية بميوله في اختيار افتتاح تهادني مغلق ميال إلى التعادل أم تفضيل هجوم مضاد يبقي احتمالات التصعيد والفوز متاحة. ستكشف اليوم نوايا أوباما في تفضيل التصعيد أم التهدئة مع روسيا، وبعدها يمكن للتحليل أن يبني على الموقف الأميركي مقتضاه سورياً وإقليمياً ودولياً.

السفير

السابق
وفاة مواطن أطلق عليه النار داخل معرضه للسيارات في القلمون
التالي
العربية: ايران تعترف بدخول أبادي خفية الى السعودية