لو عاد جورج حاوي حياً

يستغرب مناضلون في الحزب الشيوعي كيف يتعرضون للقمع من “رفاق وأخوة” لهم في خندق الممانعة والمقاومة. وهي ليست المرة الأولى. الذاكرة المثقوبة تكون في العادة استنسابية، فهي أسقطت أحداثاً أليمة خسروا فيها مقاومين أصابهم الرصاص في ظهورهم وهم ذاهبون أو في صدورهم وهم عائدون. وقبل أن يدخل جورج حاوي في تلك الذاكرة سارع الوريث السياسي إلى تبرئة القاتل واستلحق أولياء الدم أنفسهم وحجزوا مكاناً لهم في جوقة الاذعان للجلاد.
“ما لجرح بميت إيلام”. القيادة حولت الحزب إلى جثة. مناضلون صادقون مرتبطون بالتاريخ والقيم اليسارية الجميلة، مستعدون للتضحية بكل شيء من أجل القضية. لكن حجم القضية من حجم القيادة، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
كأن المتنبي يستكمل الكلام عن العزم والعزائم ليقيم المقارنة بين الحزب أيام جورج حاوي والحزب بعده. “وتعظم في عين الصغير الصغارها وتصغر في عين العظيم العظائم”. تذكرت قوله حين نعتهم بالأقزام. في غيابه يتيقن المرء لماذا كان الحزب كبيراً وقضية الحزب كبيرة. أجوبة كثيرة على هذا السؤال، منها قوله ذات مرة، ننهزم مع كمال جنبلاط ولا ننتصر وحدنا. ربما هي عبارة يقولها أهل بلادنا بالأمثال الدارجة، “الموت مع الميتين حلو”، أو “حط راسك بين الروس (الرؤوس)”. قوة الحزب ببيئته الحاضنة. حزب بلا حضانة هو حزب معزول يسهل على العدو، وخصوصاً على الصديق، اصطياده. هذا ما فعله به البارحة رفاق الخندق الممانع.
أيام جورج حاوي، كانت تمتد صداقات الحزب في أرجاء الكون. من هوشي منه شرقاً حتى كاسترو وغيفارا ومن موسكو شمالاً حتى نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، ومن لينين حتى ياسر عرفات. بعده توسلت القيادة (أو تسولت،لا فرق) في عام 1993 موعدا لزيارة الشام، فحددوا لها موعداً في خريف 2004 . اثنا عشر عاماً فقط .كثيرون من قادة الأحزاب في العالم زاروا لبنان بدعوة من الحزب، صار مقر الحزب بعده قفراً من غير زوار.
البارحة فيما كان الشعب اللبناني بغضبه الساطع يملأ الساحات، اختارت القيادة أن تنسّق مشاركتها في الحراك المدني، لا مع شباب الساحات بل مع رموز صغيرة من معسكر الممانعة، وأن تسحب مناضليها من بين الجموع وترمي بهم وحدهم في اعتصامات معزولة. من يسعى وراء التفرد أو الفرادة بهذه الطريقة لا يجني غير الاستفراد.

جورج حاوي
لكل ثورة قضية. عند انهيار الاشتراكية أدرك أن حزباً يضم نخبة من المناضلين الشرفاء سيموت بموت القضية. قال إننا في سفينة الاشتراكية المهددة بالغرق، علينا أن نعود على قوارب النجاة إلى الشاطئ لنصنع سفينتنا، لنصنع قضيتنا. وقضيتنا هي إعادة بناء الأوطان. لم يعد الخطر على الوحدة المأمولة بين الأوطان العربية، بل صار الخطر على وحدة كل وطن. دعا إلى المصالحة الوطنية مع خصوم الحرب الأهلية، وسلم السلاح للدولة وعاد إلى النضال السلمي. بعده راحوا يدقون نفير الحرب وينكأون جراحات الأمس، يبكون على أطلال الماضي الجميل، ويوظفون اليسار في خدمة من سرق منهم القضية، ويلهثون وراء أوهام القضايا الخاسرة.
حين دعاهم إلى حقن مصطلح الثورة بمضمون جديد، لم يقتنعوا. الثورة ليست بالضرورة قرين العنف، وإن كانت كلفة التغيير كبيرة فليس بالضرورة أن تكون دموية. في كل تغيير يموت قديم ويحيا جديد، لكن ماذا نقول عن الثورة العلمية أو الثورة الفنية. الثورة لا تلغي قديمها ولا تدمره، بل تبني عليه، تطوره، يولد الجديد من داخله وينمو. حين لم يقتنعوا استقال. ولما رأوه مصراً على تلقينهم أصول القيادة، بالممارسة العملية والتألق والنجاح، من خارج الأمانة العامة،في لعب دور قيادي على مستوى الوطن، لم يتحمل رفاقه كثرة مبادراته فهددوه بالفصل من عضوية الحزب. تهديد “رفاقي” يوازي قرار من ذاقوا ذرعاً من حيويته ونشاطه ولم يتحملوه فاغتالوه.
الفارق بين طرفي المقارنة في شعر المتنبي كالفارق بين قرار جورج حاوي بإعلان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وقرار المزعومين ورثة باللهاث خلف سرايا المقاومة أو بيع كراماتهم في سوق الممانعة.
تحية لجورج حاوي ولجبهة المقاومة في ذكرى تأسيسها.

(المدن)

السابق
هكذا سيكون طقس الـ «weekend»
التالي
كذبة كبيرة: الخطر الأمني في بيروت