اللاشعور السياسي

محمد علي مقلد

لا يخفي اللبناني قرفه من حكامه جملة، ثم لا يتردد في التجديد لهم في صناديق الاقتراع. قرفه مرهون بلحظات الغضب، وحين يهدأ يعود إلى طواعيته. وإن غضب فهو لا يخبط خبط عشواء ولا يوجه سهاماً طائشة ، بل يرسم ملامح انفعاله بتأنّ حتى لا يتأذى زعيمه من “طرطشات” غضبه.
تصل سورة الغضب عنده حد الكفر بالوطن والبحث عن بديل على أول طائرة. وإن حصل على تذكرة سفر فأول ما يعنيه هو أن يسأل عن هوية جاره على مقعد الطائرة ليعرف إلى أي فريق ديني أو سياسي ينتمي، وحين يحط رحاله في بلد المنفى أو الاغتراب يضبط تلفازه على المحطات اللبنانية ويعطي الأفضلية للتي تدغدغ مشاعره الطائفية والمذهبية والسياسية.
نجح الزعيم بتطويع رعيته وترويضهم ولم يعد يحتاج لحشدهم وراءه إلى أكثر من إشارة أو تلميح. يكفي أن يذكر اسم شارع أو منطقة أو شهيد أو فقيد لتنتفخ أوداج الصادحين بحمده وبشتم خصومه.
تعلم اللبناني من تجربة الحرب دروساً بالمقلوب. لم يقرأ ما قاله الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى عنها في معلقته الشهيرة. وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم. استمرأ القتل حتى صار جزءا من عاداته ورفعه بعضهم شعاراً على اللافتات: “القتل لنا عادة”.

الحرب الاهلية اللبنانية
يعرف اللبناني أن زعيمه السارق يسرق لنفسه ولحاشيته ويعلمها السرقة ويمعن في الفساد لحسابه ولطائراته الخاصة وقصوره في الخارج، فيستحق غضب الجمهور صباح مساء، وحين يحين وقت الجد يصطف جمهوره خلفه بالنظام الميليشوي المرصوص.
يأسف السفير البريطاني لأنه سيغادر بلداً جميلا اسمه لبنان. يتركه وفي قلبه غصة على هذا الشعب المبادر النشيط الحيوي الناجح القادر على اجتراح المعجزات في الطب والهندسة والمقاولات والأدب والفن وغير ذلك. يغادر وكله أمل في أن يتعافى هذا الوطن من أمراضه الكثيرة ومنها مرض التمديد. ربما لم ينتبه سعادته إلى أن زعماء لبنان اعتادوا التمديد، بالانتخابات أحياناً، لأنفسهم ولذريتهم أباً عن جد منذ الاستقلال، وأن طحالب الزعامة النابتة على حوافي الحرب الأهلية شدت الوطن بأذياله نحو حضيض غير مسبوق من أنظمة الاستبداد المقنع.
اللبناني هذا على مستوى عال من الوعي. آلاف مؤلفة من “الخبراء والمحللين الاستراتيجيين” الذين يعرفون تفاصيل الحياة السياسية على الكرة الأرضية وفي جميع الأوطان أكثر من أهل البلاد الأصليين. ويعتقد كل منهم أن فريقه السياسي هو “خير أمة أخرجت للناس”، وتراه ، عند كل منعطف، جاهزاً لرشق خصوم الزعيم بأقذع الشتائم.
حاولنا أن نفسر المفارقة الماثلة في شخص اللبناني بين وعيه السياسي الدائم وإذعانه الدوري للزعيم. قال أحدهم في تفسير ذلك، إن اللبناني يستخدم وعيه فيبدع حين يكون متحرراً من ضغط انتمائه السياسي أو المذهبي. وأحال آخر أسباب هذا “العاهة” إلى مرض الطائفية، وإلى النظام الانتخابي الذي يجعل المواطن مربوطاً إلى رحمه السياسي بحبل المصالح والتنفيعات، ويحصر مهمات النائب بتعقب المعاملات والمجاملات والحج إلى بيت ولي النعمة والنطق باسمه وتمثيله في الأفراح والاتراح.
وقيل وقيل، إلى أن عثرنا على مصطلح سياسي من ابتكار الفرنسي ريجيس دوبريه الذي بدأ حياته مناضلا في صفوف الحزب الشيوعي والتحق بتشي غيفارا، ثم اعتقل لأربع سنوات اطلع خلالها على النصوص الأصول في الماركسية وعلى نصوص دينية في الفلسفة والكتاب المقدس، فاكتشف من خلال المقارنة وجود نوع من الاستمرارية بين الماركسية والدين، ولا سيما بعد أن تحولت الماركسية على يد ستالين إلى ما يشبه الدين، وتحول التنظيم الحزبي إلى “مجتمع الاحتفال بالأشخاص والمنجزات”، وتحول الزعيم الحزبي إلى ما يشبه النبي أو الإمام المعصوم.
لم يعد ينقص اللبناني شيء. زعيم حزبي من مخلفات الشيوعية أو من تشوهاتها البعثية والقومية، وأئمة معصومون في الأحزاب الطائفية والدينية. يقول دوبريه إن الظاهرة السياسية لا يؤسسها الوعي، وهو متوفر من غير شك عند اللبناني العادي وعند النخبة وعند المحلل الاستراتيجي طبعا، بل هي تتأسس باللاوعي، أو “باللاشعور السياسي” الذي يبنى على علاقات من نوع “العلاقات القبلية العشائرية أو الطائفية والمذهبية أو الحزبية الضيقة”
ريجيس دوبريه تولى تشخيص المرض تاركا لنا وصف العلاج.
العقل الواعي بدل العقل الباطني ( اللاوعي أو اللاشعور) ، العقل المدني العلماني بدل العقل المذهبي والطائفي، العقل الوطني بدل الحزبية الضيقة والاستتباع الرخيص للزعيم المحاصص.

(المدن)

السابق
أهل الزبداني يسطرون كربلاء سوريا أمام حزب الله والأسد
التالي
عادل كرم في السجن