أمراض المجتمع المدني الطفولية

محمد علي مقلد

رجال الاستقلال بنوا أوطاناً أو ورثوها أو تولّوا إدارتها. اعترضت أحزاب على شكل المبنى وعلى تفاصيل البناء، وسرعان ما تحول الاعتراض ومواجهة الاعتراض إلى حروب أهلية. ورشة التدمير بدأت في لبنان عام 1975 وها هي تستكمل اليوم في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ولن ينجو منها أحد إلا إذا توافق المختلفون على تنظيم اختلافاتهم وخلافاتهم، بالديمقراطية والدولة المدنية بكل مترتباتها.

الذين دمروا في لبنان أوكلوا إلى أنفسهم أو أوكلت إليهم إعادة البناء، من غير أن يقرأ أحد منهم تجربته اتدميرية قراءة نقدية، أو أن يلوم نفسه على أي شيء. تحول اللوم الذاتي | النقد الذاتي إلى إدانات متبادلة ثم إلى تكفير. لم يكتف التدميريون بحروب الشوارع والقصف العشوائي، بل نقلوا الحرب الأهلية إلى داخل السلطة ومؤسساتها، في مجلس الوزراء ومجلس النواب وفي  إدارات الدولة. كل ذلك، على فداحته، يمكن علاجه فيما لو كانت مؤسسات المجتمع المدني سليمة، لأنها الضمانة الأخيرة لتصويب عمل الحكومة. أما أن تتوزع تلك المؤسسات على اصطفافات السلطة وأحزابها وأمراضها فهو نذير شر مستطير و خطر دمار شامل.

مؤسسات المجتمع المدني هي الأحزاب والنقابات والجمعيات والأندية. أحزابنا ونقاباتنا شاركت في صناعة الحرب وفي إعادة تكوين السلطة. وهي في أصل البلاء. الجمعيات والأندية، بعضها تابع للأحزاب، يمينها ويسارها، ومصاب بأمراضها، وبعضها تابع لأهل السلطة رؤساء ونواباً ووزراء، وملوث بفسادهم، ما عدا قلة قليلة من الجمعيات والأندية والتجمعات التي نشأت تعبيراً عن موقف نقدي من الحرب أو رغبة في تقديم بدائل مقبولة لإعادة بناء الوطن، أو سعياً إلى إنقاذ من يمكن انقاذه من لوثة الحرب وفساد السياسة. لكنها، على نظافة المنتسبين إليها، أطر مغلقة على عدد قليل من الأفراد لا تملك القدرة على الانتشار والتأثير أبعد من نطاقها، وفي كثير من الحالات هي لا تبغي ذلك ولا تطمح إليه، ولها أسبابها وذرائعها.

ينطبق عليها المثل، كل يغني على ليلاه، أي على قضيته. القضية الاجتماعية أطلقت هيئة التنسيق النقابية ومظاهراتها بآلاف مؤلفة، ومطلب العلمنة جمع مناضلين من كل الأطياف في مظاهرات بعشرات الآلاف تحت المظلات والمطر، وانتهت القضيتان كما بدأتا، حلماً جميلاً وخيبة وإحباطاً، ومطلب التعددية والديمقراطية جمع معترضين على التمديد للمجلس النيابي وعلى تأجيل انتخابات الرئيس  أو على التدخل في سوريا. أعدادهم القليلة لم تعكس أحجامهم الحقيقية، ما جعل أهل الفساد والافساد مطمئنين إلى ثباتهم على الكراسي.

الكهرباء والنفايات هما فضيحتا سلطة الفساد والمحاصصة بامتياز، لأن التشخيص فيهما واضح والمسؤولية أكثر وضوحا. أكثر من نصف الدين العام دفع على الكهرباء وما زال لبنان رازحاً في العتمة منذ عقدين  ونصف. تقدمت هيئات عربية ودولية، أكثر من مرة، بهبات مالية ونفطية لحل مشكلة الكهرباء وكان وزراء الطاقة(الممانعون دوماً) يمتنعون عن قبول الهبة أو النصيحة مفضلين طريقة في نهب المال العام دشنها نظام الوصاية الذي منع الحكومة اللبنانية من استيراد الغاز من مصر أو الكهرباء من تركيا و”أوحى” إلى وزرائه “اللبنانيين” بأن يمتنعوا عن بناء أي معمل جديد للكهرباء مفضلين المولدات الخاصة واستئجار البواخر.

قررت الحكومة إقفال مطمر الناعمة، من غير أن تبحث عن بديل، ثم تفاجأت، كأي مراقب خارجي، بأن النفايات تطمر شوارع العاصمة، وكل الجهات معترضة على استقبال المطامر المستحدثة. ليست المرة الأولى التي يطلب فيها من كل منطقة أن تتحمل نفاياتها، لكنها المرة الأولى التي يرمى فيه هذا “الواجب”، لا في وجه المناطق والقرى والمدن، بل في وجه الطوائف والمذاهب وأحزاب الطوائف. لا المطامر ولا جبال النفايات هي الحل. بل الحل في معامل تصنيف النفايات وفرزها وتحويلها إلى طاقة، وهذا يحتاج إلى قرار من أهل الحل والربط، على طريقة ما حصل في صيدا.

غير أن المجتمع المدني وقف، في القضيتين،  متسترا على الفضيحة . في الكهرباء، لم يقل كلمة عتب واحدة لوزراء الممانعة، وفضل الحلول الافرادية والتكيف مع نتائج نهب المال العام نهباً علنياً،  وفي النفايات صوب في غير الاتجاه الصحيح، كأنه أختار أن يصطف مع المحاصصين، مع أن حصته الوحيدة هي الخيبة. فهل يعقل أن يكون المناضل أوالناشط المدني محاصصاً أو أن يكون المحاصص شريكاً في تحرك مؤسسات المجتمع المدني؟

التطاول على الوزير رشيد درباس قد يأتينا بالجواب. ثلاث شهادات في مزاياه . واحدة من قاض يجمع أهل العدل في لبنان على نزاهته، وثانية من كلمة قالها في تكريم السيد هاني فحص ظهر فيها شاعرا مبدعا وناقدا يزان ذهب الكلام بميزانه، وثالثة قالها بمناسبة عن تجديد الفكر اليساري جمع فيها حكمة الشيوخ وعنفوان الشباب. شهادات ثلاث تجعلني أعتقد أن من يتطاول على مثل هذا الوزير هو جزء من نظام المحاصصة لا من مؤسسات المجتمع المدني، وأن مشكلة المحاصصة لا تعالج بمحاصصات جديدة.

مع ذلك،  من تحرك مؤسسات المجتمع المدني  يبدأ الحل ، ولكن، بعد تخليصها من طفيلياتها ومن أمراضها الطفولية.

(المدن)

السابق
طبيب حقنها بمهدئات قبل ان يغتصبها
التالي
5 أعشاب لرغبة جنسية أقوى