لماذا لم ينقذ «الحضور» جورج الريف؟

جورج الريف

ضُرب أمام أعين العشرات، رُكل وسُحل، وعبثًا ركض بين الناس محاولاً الهروب لعل احداً منهم يلتقطه، أو يحميه أو يدافع عنه، لكنهم بقوا واقفين يشاهدون ما يدور حولهم، هذا على الأقل هذا ما رأيناه في الفيديو الذي وثّق لحظات الجريمة، وكأنهم في مسرحية أدهشتهم فأسرع بعضهم الى تصويرها، تكررت المشاهد عدة مرات ما زاد من فظاعتها ودمويتها، ومع ذلك لم يتحرك اي من “المشاهدين” لتحرير جورج الريف من بين مخالب طارق يتيم.

البعض راقب من بعيد، والبعض الآخر لم تعجبه “المسرحية” فغادر المكان من دون انتظار المشهد الاخير. أُسدل الستار وغادر “رامبو الجبار”، فتقدم من بقي من الحضور للاطمئنان على “الضحية”. توقف التصوير ليبدأ التنظير وانقسام آراء اللبنانيين بين منتقد لمبالاة من كان موجودًا لحظة تعرض جورج للهجوم، وبين مبرر لردّ الفعل وتارك الأمور تدور من دون محاولة تغيير السيناريو الذي يكتبه وينفذه “البطل” مباشرة على الهواء. ومنهم من ارتكز في آرائه على علمي النفس والاجتماع، ومنهم من اندفاع وتحرك احساسه عند مشاهدته الفيديو الذي بات حديث الجميع خاصة أن الضحية انتقلت الى مثواها الاخير.

اسئلة كثيرة تطرح عند مشاهدة الفيلم، لماذا هذا التقصير؟ لماذا لم يندفع اي من “المشاهدين” ويحاول سحب الوحش عن الريف؟ هل بسبب الخوف والجبن؟ أين النخوة والاندفاع اللاإرادي؟ أم أن مشاهد العنف باتت أمراً طبيعياً لا تحرك ساكناً فينا؟

أسباب عدم تفاعل “الحضور”
ليست المرة الأولى التي لا يتفاعل فيها “الحضور” مع “المسرحية”، فقد تكرر الأمر مرّات عدة، من بينها ما حصل عندما حاول رجل الانتحار من فوق جسر الكولا قبل أسابيع، وكأن الناس باتوا يعتقدون أن ما يشاهدونه أمامهم استكمال لفيديوهات عنف “داعش” وأخواته التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي يومياً، فيشاهدون، يصوّرون، يعرضون على الفايسبوك، ويبدون آرائهم. وعن ذلك علّق دكتور علم النفس العيادي نبيل خوري في حديث لـ”النهار” قائلاً أن “أسبابًا كثيرة تقف وراء ما وصلنا اليه، كأن يحسب الناس ان المعتدي مدعوم وهم ليسوا كذلك، ثانيا انهم لا يعلمون السبب للاعتداء فلماذا اذا عليهم ان يتدخلوا عشوائياً، كما يحسب بعضهم انه قد يستدعى الى المحاكم التي لا تعامله باحترام، كما لا اشكك برغبة حماية الناس لأنفسهم من ضربة سكين عابرة من شخص محترف القتل”. ثم اضاف: “في المقابل هناك قلة اخلاق لدى بعض اللبنانيين الذين يعتبرون أنهم ليسوا مضطرين للمشاركة في موضوع لا يعنيهم، وكلها اسباب محفزة لعدم التدخل بالاخص انه لم يعاقب حتى الآن الا ما ندر ممن اقترفوا اثما والجزء الأكبر ينجو بالتفافات قانونية”.

تفاعل “فايسبوكي” لا واقعي
عويل وصراخ زوجة جورج واسترحامها “الوحش” كي يبعد أنيابه عن زوجها لم تحرك مشاعر أيٍّ من الحضور الذين ركز بعضهم على التقاط الصور، وهي عادة انتشرت كثيراً في الآونة الاخيرة، بحيث بات هم البعض تصوير الحدث والتفاعل معه فايسبوكياً لا واقعياً، وقال خوري: “استنجاد الزوجة كان كافياً لتحريك القليل من مشاعر الناس، لكن هناك امورًا تحدث على أرض المجتمع اللبناني لا تخلو من قلّة الاخلاق، وقد يكون التقصير أحد انواعه الذي لا اجد له سوى مبرر واحد وهو الخوف من التورط في المحاكم والتعرض للانتقام من أشخاص نافذين، فقد يكون بعض المشاهدين يعلمون ان المعتدي مدعوم”.

ثلاثة في واحد
كثيرون وصفوا ردّ فعل الحاضرين بـ”الجبن”، لكن هل يعقل ألا يتجمع أمام المسرح إلا من يتصفون بهذه الصفة؟ عن ذلك أجاب خوري: “الجبن حالة معينة موجودة عند الانسان تقوم على مبدأ حب الذات وعبادة الجسد. فهناك من يقنع نفسه ان عدم التدخل لا يرتب عليه اي اعباء، وعدم المشاركة في اي نشاط لا يرتب عليه اي مسؤولية وعدم القيام بأي عمل لا يرتب عليه اي خطأ، لذلك يبقى مستقيلاً من واجباته، بالأخص اذا كان الواجب لا يعنيه مباشرة، والجبن هو نوع من أنواع الخوف الذي يسيطر على الانسان ويحتم عليه الا يقدم على التدخل في اي مشروع لا علاقة له به حفاظاً على انانيته الذاتية وعلى نرجسيته”.

تسيُّب متعدد الوجوه
لكن كيف يعقل ما شهدناه ونحن نفتخر بمشاهدة “باب الحارة” لسنوات وحبّنا لليد الواحدة لدى اهاليها، واقعيًّا اين الخوف على “ابناء حارتنا” ؟ دكتور علم الاجتماع بسام الهاشم قال لـ”النهار”: ” نعيش عموماً حالة تسيّب أخلاقي وقانوني، هناك قوانين لا تطبّق أما عن القضاء فحدّث ولا حرج، والسلطة السياسية التي يجب ان تكون قدوة، رموزها قادة ميليشات الحرب اللبنانية، اذا كيف يمكن اقناع المواطن العادي ان تكون اخلاقه افضل”. وأضاف: “الأسرة كذلك في أحيان كثيرة مفككة بسبب هجرة الارياف الى المدن، فقد فقدنا النخوة والمروءة التي كانت موجودة في المجتمع الريفي والتقليدي وبتنا في مجتمع غير مضبوط. هذا الامر خلق حالة من التسيّب وبات الانسان عندما يرى الكبائر ترتكب امامه يتصرف وكأنه لا يُبالي بها وبالتالي وصلنا الى مشهد جورج”.

اصابة في الصميم!
أصيب جورج في الصميم من يتيم ومن “الحاضرين”، فقد خانه الجميع عندما كان في أمسّ الحاجة اليهم، تركوه يلاقي مصيره على يد وحش لا يرحم. ضُرب في بلده أمام شركائه في المواطنية حتى سال دمه وغاب عن وعيه قبل أن ينقل الى المستشفى ويأبى أن يعود الى العيش وسط من خذله، وقال الهاشم: “حس المواطنة المبني على الايمان بمجموعة من القيم العليا التي تحدد السلوك عند الشعوب المتحضرة أصيب في الصميم”.

ناقوس الخطر… دقّ
رحل جورج غير آسف على حياة لا يحاول فيها الانسان أن ينقذ أخاه في الانسانية، رحل إلى البعيد تاركاً شريط التصوير ليكون شاهداً على التقصير، و”للأسف نحن في مجتمع دخل في حالة عدمية، والجريمة التي حصلت تدق ناقوس الخطر فاذا لم تحصل عملية تغيير في المجتمع للعودة الى المنابع الاصيلة، اخشى ان نكون على طريق التدمير الذاتي والانتحار. العملية هي ثورة اخلاقية قبل كل شيء”، ختم الهاشم.

(النهار)

 

السابق
أوباما والمسؤوليّة العربيّة
التالي
رسائل أوباما لخامنئي و«الاتفاق النووي»!