أغرب من الخيال: قصة «أولكان»

«أولكان» اسم العمليات لقرصان انترنت، لكن هويته الفعلية واسمه واصله وفصله معروفة: فرنسي في الحادية والثلاثين، «يناضل» في صفوف «رابطة الدفاع اليهودي»، التنظيم الميليشيوي الذي أسسه مائير كاهان في نيويورك في 1968 ومنعته الحكومة الأميركية في 2001 وصنفته منظمةً إرهابية بعد اكتشافها مخطط اعتداء على مسجد في نيويورك ونائب في الكونغرس. «أولكان» هاجر الى اسرائيل بعدما دانته محكمة فرنسية بالهجوم على مكتبة في باريس في 2009، وأسس هناك موقعاً سمّاه «اغتصاب صوتي» (بكل أناقة!).

 

غريغوري شللي هذا يقوم بـ «مقالب» كما قال رئيس شرطة مارسيليا. والحقيقة أنه يلعب بالبوليس الفرنسي وبوحدات النخبة فيه، ويعرضها للإهانة والسخرية. ويبدو وكأنه يحرِّكها على هواه. حدث ذلك في الأسبوع الماضي وحده ثلاث مرات. أرسلها الى عناوين مختارة بعد منتصف الليل معززة بسيارات الإطفاء والإسعاف، لتهجم على بيوت صحافيين مشهورين: بيار حسكي مؤسس موقع Rue 89 التابع لمجموعة «نوفيل اوبسرفاتور»، بعدما عمل في وكالة الأنباء الفرنسية ثم أصبح احد مديري تحرير «ليبراسيون»، ودوني سيفر مدير تحرير أسبوعية «بوليتيس»، ودانيال شنايدرمان مؤسس البرنامج التلفزيوني النقدي الشهير «التوقف على الصور» بعدما عمل في صحيفتي «لوموند» و «ليبراسيون». استخدمت وحدات النخبة المدججة بالسلاح تلك أساليب مكافحة الإرهاب، من تحطيم أبواب الشقق عند اقتحامها، ورمي «المشبوهين» أرضاً وتكبيلهم فوراً. قبل أسبوع، حدث السيناريو نفسه في مرسيليا وكان المستهدف أحد رئيسَي «الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام» المناهض للصهيونية وإسرائيل، الذي أوقف بعنف متناهٍ لدى الشرطة لساعات عدة، وخصه رئيس شرطة منطقته بتعليق اعتبر فيه الحادث «مقلباً».

 

ليس في الأمر ما يثير الضحك. في العام الفائت، توفي والد أحد صحافيي موقع 89 Rue بعدما حاول المتصل إيهامه بأن أبنه مات وعليه الحضور للمشرحة للتعرف إلى الجثة، وعاد وهدده باتصالات متكررة بعد منتصف الليل وبشتائم، كما أرسل إليه البوليس على الطريقة الموصوفة آنفاً، فأصيب بذبحة قلبية، اثبت الفحص أنها نتجت من الضغط. و «اولكان» ذاك، هذا إذا كان يعمل وحده ومن تلقاء نفسه، هدد رئيسة بلدية ليل، مارتين اوبري (وهي بالمناسبة من أبرز السياسيين الفرنسيين) قائلاً انه «لم يجد بعد العقاب الذي تستحقه» لأن مجلس البلدية جمّد توأمة المدينة مع أخرى إسرائيلية. وهاجم مواقع نضالية متضامنة مع فلسطين (طبيعي!) وصحفاً وإذاعات وعطّلها، ومنها «فرانس انفو» و «فرانس انتر» الإذاعتان الأكبر والمملوكتان للدولة. وقد تقدم المدير العام لشركة «اورانج» للاتصالات بشكوى لتلقيه تهديدات بالموت عقب إشارته إلى رغبته بتعليق شراكة مؤسسته مع نظيرتها الإسرائيلية (وهي إشارات تَراجع عنها الرجل في شكل مهين، فزار إسرائيل بعدها فوراً وقال هناك إنه «يحبها»… وهو ما حدث بإيعاز رسمي له وإثر نفي وزير الخارجية الفرنسي شخصياً وفي شكل قطعي وجود مثل هذه النوايا).

 

تتحرك الحكومة الفرنسية إذاً بسرعة صاروخية حينما تنزعج إسرائيل. ولكنها تتجاهل تلك الحوادث التي انتهى بها المطاف الى المس بشخصيات معروفة بقصد إرهابها حين تتخذ موقفاً، مهما كان معتدلاً، من الموضوع الفلسطيني. هناك تحقيق قضائي فُتح قبل أشهر على أثر عشرات الشكاوى، ولكنه بطيء الى حد يجعله بحكم المجمد. والحجة القانونية أنه لا توجد اتفاقية لتبادل المطلوبين بين فرنسا وإسرائيل، لكن السلطات الفرنسية لم تصدر مثلاً طلباً الى الانتربول بتوقيف الرجل، ولم تتابع بحزم طلبها الى السلطات الإسرائيلية بالتعاون لوقف أذاه. وتطلب الأمر أن تطاول اعتداءاته أولئك الصحافيين الثلاثة، المعروفين جداً، حتى يقرر قبل ايام وزيرا الداخلية والعدل الفرنسيان استقبالهم وتطييب خاطرهم. وهم خرجوا من اللقاء يشيرون الى استمرار غياب «الموقف السياسي» الرسمي، على غرار تصريح السيد فابيوس ذاك بشأن «أورانج». بل ذهب حاسكي وسيفر في افتتاحيتهما الى التساؤل عن تلك الميوعة، وعن وجود «تواطؤ» يعطل خروج مثل هذا الموقف، سيما أنه يصعب تصديق أن «أولكان» ذاك يعمل وحده من ملجئه في أشدود. فهو متسع النشاطات ومتنوعها، يسطو على أرقام هاتف ضحاياه أنفسهم، ويستخدمها في الاتصال بالشرطة (الرواية المتكررة انه يتصل من رقم هاتف ضحيته بمخفر للشرطة ويقول إنه قتل زوجته ـ وهي المحطة الثابتة في السياق ـ ثم ينوِّع قائلاً انه مسلح، أو أنه أفلت الغاز في البناية، أو انه سيقتل جاره الخ…). وحين تعيد الشرطة الاتصال، كما حدث إحدى المرات، فهي تقع على الرجل الذي يؤكد ما قال!

 

«أولكان» ينتحل أيضاً صفة ضباط شرطة سطا على حساباتهم الالكترونية وأرقام هواتفهم، ثم يتصل بزملاء لهم بصفته تلك ويستحصل منهم على معلومات يعود فيستخدمها. وهو يخترق الملفات الالكترونية لسجلات الأحوال المدنية وللشرطة وكذلك للأشخاص. وفي حالة مدير عام «أورانج»، نشر على الملأ كل المعلومات الشخصية التي تخصه. وعلى فرض وجود برامج للاختراق معروفة من «الهاكرز»، أي قراصنة الانترنت، وعلى فرض امتلاكه موهبة عالية، يبقى أن هناك حدوداً للقدرة الفردية في هذا المجال.

 

على كافة نقاط الحدود الفرنسية، البرية والجوية والبحرية، وُضعت قبل بضع سنوات لوائح بأسماء المناضلين المؤيدين لفلسطين، تجعلهم يتعرضون «للتدقيق في الهوية» (وهو اسم الإجراء قانونياً) الذي قد يستغرق ساعات أو دقائق عدة، وقد يكون مصحوباً أحياناً بالاستجواب. بدأ ذلك مع انطلاق نشاطات المقاطعة (BDS) في أوروبا (تتميز السلطات الفرنسية من دون سواها بالإجراء، مع أن المقاطعة إياها أنشط بكثير في بريطانيا مثلاً)، وتَعزَّز بعد «أسطول الحرية» الأول في 2010. هذه المضايقات مزعجة بالتأكيد، ولكنها خصوصاً استفزازية بسبب شكليتها ومجانيتها، ما يجعلها أداة ضغط على هؤلاء المناضلين، وبينهم من هو فرنسي جَدّاً عن أب، ويهود (كعدد ممن هاجمهم «أولكان» ذاك)، وفرنسيون يتحدرون من أصول عربية. وهناك من تقرر حرمانه الحصول على الجنسية على رغم إيفاء طلبه لكل الشروط، وقد قيل في جواب التبرير الرسمي المرسل اليه والى محاميه أنه يقوم بنشاطات تؤيد فلسطين، ولدى تعدادها في الرد، يتبين أنها كلها سلمية وتمثل تعبيراً هادئاً ورصيناً عن الرأي، ليس فيه كلمة أو فعل يقعان تحت طائلة القانون.

 

فكيف يستقيم هذا مع ذاك؟

(الحياة)

السابق
هل خطر الإرهاب على الداخل ما زال بعيداً ؟
التالي
«داعش» يهدد بإسقاط حماس في غزة