فوائد السيجارة

سيجارة
كلما أصر الطبيب على ضرورة أن تترك السيجارة، تزداد تعلقا بها، تود لو يفهم أن هذا الشغف لا يكلفها إلا بضع أوراق نقدية لا قيمة لها، بينما كل شغف آخر، كلفها دورة حياة بأكملها

هي حديثة العهد بالتدخين، علاقتها بالسيجارة بدأت بعدما أصابت منها الهموم مقتلا. يوم قررت أن تصبح مدخنة، أحست أن الهموم سوف تنجلي تباعا مع ولعة كل سيجارة، إلا أن السيجارة أضافت إلى همومها هما له رائحة مختلفة، بشعة ربما، بعكس بعض الهموم التي لها روائح نسمات الفجر أو لسعات شمس الظهيرة أو عبق نبتة “العطراية” في أوائل العشيات.

لكن، كل ما حولها بشع، ليس رائحة السيجارة فقط، فلا ضير في بشاعة صغيرة أخرى إضافية. البشاعات التي تحيط بها، لم ترشدها إلى أي نوع من الحكمة، لكن في بشاعة السيجارة سحر، يشبه فقدان البراءة أثناء الخوض في تجارب مفيدة، أو مثيرة، لذلك هي تفكر في الإقلاع عن الهموم، لكنها لا تفكر في الإقلاع عن التدخين أبدا.

 

لا تفكر في ترك السيجارة، في السابق تركت أشياء كثيرة، ثقلية، خلف ظهرها وأكملت خفيفة، شفافة، هشة، تكثفها نفخة وتبعثرها نسمة، مثل دخان سيجارتها. السيجارة أيضا، ربما، لا تفكر في تركها، الأشياء مثل البشر أحيانا، تتمسك بالأوفياء، بعض البشر يتذمر من الوفاء، يحسبه دينا، أما السيجارة فلا. يتغلغل دخان السيجارة في الأوردة، يتحد بالدم، لا يرضى بأقل من سكنى القلب والرئتين ولا يغادرهما أبدا، خلافا لكثير من الأشخاص الذين يجتاحون قلوبنا وجوارحنا ثم يغادرونها فجأة، بعد أن يشعلوا فيها الحرائق.

كلما أصر الطبيب على ضرورة أن تترك السيجارة، تزداد تعلقا بها، تود لو يفهم أن هذا الشغف لا يكلفها إلا بضع أوراق نقدية لا قيمة لها، بينما كل شغف آخر، كلفها دورة حياة بأكملها. كان عليها في كل مرة، أن تسدل الستارة السوداء على مأساة جديدة، وكانت مجبرة أن تبدأ من حيث انتهت. الشغف بالتدخين نهاية غير مرصودة ببداية جديدة، هو نهاية فقط. إغراء التدخين يكمن في اللاعودة إلى نقطة الصفر، لا صفر مع التدخين، بل تحطيم للأرقام المتضخمة في مخيلتنا، صعود مطرد نحو القمة، دون احتمال الانحدار مجددا في الاتجاه الآخر.

هي والسيجارة موجودان بينهما تشابه تكويني، تماثلفي البدايات والمآلات. كلاهما كان في البدء نوعا من اكتشاف، ليس بالضرورة إيجابي، ثم تحول تدريجا إلى خطأ حضاري.

التدخينفي حي كندة في الكوفة، في المسافة الرملية الفاصلة ما بين بيت الإمام علي وموضع النخلة التي صلب عليها صحابيه ميثم التمار، كانت داية عمياء تهرول مسرعة باتجاه بيت صغير عند حافة الصحراء، تارة تتعثر بأذيال عباءتها، وتارة أخرى بعتمة عينيها، فتشدها امرأة أخرى من يدها، وتحثها ملهوفة “عجلي، سيولد حفيدي قبل وصولك”. كان والداها قد رزقا صبيا وبنتا، وكانت جدتها تتطمع بصبي ثان لابنها الوحيد، الطب الحديث لم يكن قد حدث بعد في العراق، فلم تعرف الجدة جنس المولود، إلا لحظة الولادة، فكانت الصدمة. بنت ثانية بدلا من صبي! لا أهلا ولا سهلا! لن أخبر ابني، سيسود وجهي! هكذا أجابت الداية حين طلبت منها أن تخبر ابنها بما وضعت زوجته.

خلف البحار والمحيطات، رست سفن كولومبوس عند شواطئ البلاد الجديدة، كل ما اكتشفه هناك كان مدهشا، كان جديدا على البشرية، عاد من سان سلفادور وفي يده بذور نبتة غريبة، رأى أهل تلك البلاد يشعلونها فتصدر رائحة لطيفة ودخانا كثيفا، ويخلف تنشقها في الجسم شيئا من الخدر، زرعها في بلاد الغجر، فأدمنوا عليها، سموها نبتة الحياة والنبتة القاتلة في آن. ثم تعرف إليها سياسي فرنسي في البرتغال فحملها إلى بلاده، ومن فرنسا خرجت زراعة التبغ مجددا إلى العالم، بعد أن قوننها نابليون في إدارات حصرية استئثارية.

كان جدها يحدثها وهو يقوم بفرم التبغ الذي هربه من خبير إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي”، مونة لسيجارة اللف، عن ضرورة أن يثور المزارعون على تسلط “الريجي”، كي يتساوى جنى مواسهم بقدر تعبهم، كان جدها “سيدا” شيوعيا دون أن يدري، يحرض الفلاحين على التخلص من سيطرة رأس المال على أدوات الانتاج، بالثورة، لذلك التحق بطليعة مظاهرة المزارعين أمام “الريجي” في النبطية في أوائل السبعينيات. سقط قربه حسن حايك ونعيم دوريش شهيدين، أما هو فقد تلقى ضربة على مؤخرة رأسه، أورثته دوخة رافقته حتى مماته. السيجارة كانت تزيدها، لكنه لم يتركها. كانت في الرابعة عشرة من عمرها حين قدم لها أول سيجارة لف، بعدما سحبت نفسا أحست بخدر لذيذ يلفها، خدر يشبه رعشة القبلة الأولى، لكنها بكت، بكت كثيرا، بينما جدها أغرق في الضحك، وقال لها: أتعرفين لماذا سموا التبغ “تباكو”، لأن من يتعاطاه يبكي! دخنوا وتباكوا…

السابق
المجلس الوطني لـ14 آذار: محاولة التقاء في زمن التقسيم؟
التالي
حين يضحك هرتزل من قبره