الثأر من العنف ضد النساء

التظاهرة الأخيرة لمنظمة “كفى” بعد مقتل سارة الأمين على يد زوجها بسبعة عشر رصاصة؛ الزخم النسبي، الإعلامي والشعبي، الذي ارتدته هذه التظاهرة، وما قبلها وبعدها؛ الإصرار على كشف ما كان يُسكت عنه في زمن غير بعيد؛ أمهات الزوجات المقتولات على يد أزواجهن، وحرقتهن على غياب القصاص ضد أصهرتهن المجرمين… كل هذا يستدعي التضامن التام. فالضحايا نساء، غير “مدعومات”، لا قانونياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً ولا عسكرياً. هن الحلقة الأضعف في سلسلة الحلقة الضعيفة أصلا من شرائح اجتماعية أخرى.

ولكن، ثمة أمر غائب عن هذه التظاهرة، وعن الفعاليات المرافقة لها. وهذا أمر مشترك آخر مع الفعاليات “المدنية” الأخرى المتخصصة بهذه القضية بالذات: أكثر من قانون الزواج المدني، أو بالأحرى قبلها، فان تشريع قانون يحمي الزوجات من العنف، وتطبيقه، والأهم تطبيقه… يصيب قلب النظام السياسي اللبناني، القائم على تواطوء تاريخي وطيد بين الطبقة السياسية والطبقة الدينية، بين سياسيي الطوائف المختلفة وزعمائهم “الروحيين”. وتشريع قانون كالذي تطالب به النساء المعنّفات، يضرب قوانين الأحوال الشخصية من صميمها، ، القائمة على الشريعة، الإسلامية منها بشكل خاص، والعاصية على أي قوانين مدنية ممكنة، تصلحها، أو تخفِّف من غلوائها في ظلم النساء في حياتهن الخاصة. هذا في أحوال “عادية”، ينوجد فيها رئيس جمهورية وبرلمان وانتخابات…

لا كما نحن عليه الآن، من فراغ مؤسسي، يكون فيه موضوع التشريع محصوراً لخدمة المصالح المباشرة لهاتين الطبقتين. وما يعزّز هذا التحصن بالدين و”المرجعيات الروحية”، منعاً لحماية النساء من عنف يتلقينه من أزواجهن، هو روح عصرنا العربي هذا؛ حيث لم يَعُد هناك من ديناميكية تغييرية على الأرض إلا الديناميكية الإسلامية. ولا فرق هنا بين إسلامية متطرفة وأخرى “معتدلة”، إلا في صراحة الأولى وتأتأة الثانية، بين تلفيق وتحسين وترقيع… لا يلبثون بعد حين أن يتحولوا إلى عداء سافر للنساء، باسم “القوامة” عليهن، أو “الدرجة”، بصفتهما من أركان عقيدتهم.

وأما أن يذهب هذا العنف إلى حدّ استعباد النساء، واغتصابهن وقتلهن مع أولادهن، وبيعهن في أسواق نخاسة مستحدثة، وإخضاعهن للشريعة نفسها، من دون تزيين ولا تنْميق، فهذا ما يضع العنف ضد النساء في إطار أوسع من مجرد مطلب فئوي، أو حتى مطلب يهدِّد النظام السياسي اللبناني… إلى مطلب يفترض أن يجمع حوله نساء المنطقة العربية كلها؛ ليس من باب التضامن وحسب؛ إنما أيضا من باب مواجهتهن للقلعة المنيعة نفسها التي تستبيح روحهن وكرامتهن. والجديد في الموضوع ان النساء المعنّفات، وهن في أقصى حالات الضعف هذه، يرفعن صوتهن، يخرجن إلى الشارع، يحرّكن نفوساً، يبتكرن تعبيرات جديدة…

وهذا ما لم يكن ممكناً أيام كن قاعدات في البيوت، سلبيات، عاجزات حتى عن التعبير، مستسلمات لقدرهن، غير متصورات انهن، أصلاً، سوف يخترعن بعد زمن آخر وسائل للتعبير عن رفضهن لإخضاعهن وتعنيفهن وإخراسهن. النساء مَسَّتهن الثورة النسوية، من غير إرادتهن ووعيهن احياناً.

هن الآن هنا، كيفما وليت تجدهن، وهذا وجه من أوجه خروجهن النهائي من البيت إلى الساحة العامة. وقد يكون هذا الخروج مؤججاً لعنف الغيرة الذكورية المفهومة. لكل هذه الأسباب، فان مطالب الكفّ عن تعنيف النساء لا يسعها ان تضيِّق على نفسها بالبقاء ضمن “حدودها” المطلبية. تحتاج إلى توسيع إطارها ووظيفتها: بحيث لا تبقى ضمن نطاق المطالبة القانونية بالتشريعات “المنْصفة”، ولا ضمن أوهام التراكم المطلبي الذي قد يفضي، أو لا يفضي، إلى نتيجة. تحتاج إلى توسيع مداها الزمني، بعد الجغرافي، بحيث تمتد على عقود، نعم عقود، وتتحول فعالياتها إلى فعل تراكمي من نوع آخر، يطال عقول النساء، ومعهن الرجال؛ فلا يخرجن إلى تظاهرة من هذا القبيل مطالبات بإعدام القتلة، هن اللواتي خرجن من أجل حقوق إنسان، المرأة الإنسان؛ لا من أجل الثأر الجنسوي، نظير الثأر القبلي، الضامن الأول للحروب المُستدامة. وأعتى الحروب هي تلك التي تستوطن الأرض القائمة بين الجنسين، وتعتبرها مشاعاً.

(المدن)

السابق
هؤلاء هم الشعوب الأكثر إدماناً في العالم
التالي
محاكمة جديدة لمبارك بعد إبطال براءته