يوميات معتقل 16: عن عميل الزنزانة وقد فقأنا عينه التي وشت بنا

معتقل اسرائيلي
الى العملاء في كل الوطن: خسئتم! العدو يملك وجهة نظر يقاتل ويقتل من أجلها، هو ينظر إليك كعدو، كما تنظر إليه أنت تماماً. العميل هو بائع لوطنه وكرامته ولا يستطيع أن يملك صديقاً، العميل لا يشعر بالحب، العميل لا يشعر بالأبوّة والطفولة ولا حتّى بنفسه!

كان ذلك الرجل غريب الأطوار، فمنذ لحظة دخوله إلى المعتقل وفرزه إلى خيمتنا في معسكر 5 لم يتفوّه بكلمة. أدخله الجنود من باب المعسكر بعد أن نادى أحدهم المختار، وطلب منه إيجاد مكان للرّجل الجديد.

ركضنا جميعاً باتجاهه سائلين عن أخبار الخارج، وعن ما يحصل، لأننا لم نكن نملك أية وسيلة لمعرفة ما يجري، سوى ما يزودنا به القادمون الجدد، عبثاً حاولنا، بقي كما هو، دائم الشرود مع كم من الدهشة في عينيه.

هذا من الذين تعاملوا مع الاسرائيليين، إنه عميل، وهو المسؤول عن وجودنا هنا!

في إحدى الليالي يدخل أسيران إلى خيمتنا ويتوجهان مباشرة إلى ذلك الرجل، أحدهم يمسكه بشدّة من الخلف، والاخر، وبحركة سريعة، يرفع وتداً مسنناً من وسطه ليفقأ له عينه ومن ثم يقتلعها.

أمام ذهولنا يصرخ أحد الرجال بنا: هذا من الذين تعاملوا مع الاسرائيليين، إنه عميل، وهو المسؤول عن وجودنا هنا! ثم توجه إلى الرجل الجريح قائلاً: بهذه العين كنت تنظر إلينا من وراء صناديق الليمون، وتعرّف الجنود عنّا… أليس كذلك؟

اختفى الرجلان في وسط زحمة الخيام. حضر المختار وأخبر الجنود بالحادث. بعد قليل حضرت سيارة “نجمة داوود” لتأخذ صاحب العين المقلوعة إلى مكان لا نعرفه!

العملاء أشرار، هم ليسوا كسائر البشر. العدو هو عدو، يقاتلك وتقاتله وجهاً لوجه، أمّا العميل قد يكون جارك أو إبن قريتك الذي يشاركك بيئتك، وأحياناً الكثير من الأشياء، يصرّح لك بشيء ويفعل أشياء أخرى خدمة لعدو يقتلك أو يعتقلك، وأحياناً يلفّق لك أشياء لا علاقة لك بها.

العدو يكون محترماً عندما يؤمن بفكر أو عقيدة ويقاتل من أجلها، فأنا أيضاً عدو لعدوّي

أمّا العدو يكون محترماً عندما يؤمن بفكر أو عقيدة ويقاتل من أجلها، فأنا أيضاً عدو لعدوّي، وفي لعبة الحرب قواعد يجب على المتقاتلين احترامها.

أخبرني أحد الأسرى هناك، بأنه اعتقل بعد معركة حامية حدثت في وادي بلدة زفتا الجنوبية: “كنّا حوالي السبعين مقاتلاً من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش)، حيث حاصرنا الاسرائيليون وضربونا بشدة. قتل منّا من قتل وجرح من جرح بعد معركة حامية في تلك المنطقة الوعرة، في النهاية استسلم الباقون، وأنا منهم.

جمّعونا في مكان ما في الوادي قبل أن يحضر قائد القوّة المهاجمة ليقول لنا: “أنتم قاتلتم بشدّة وهذا واجبكم، ما أردت قوله لكم بأن الهيلوكبتر لن تستطيع الهبوط هنا لنقل جرحاكم، وكذلك فإن جنودي تعبون وقد لا يستطيعون حمل هؤلاء الجرحى إلى الأعلى لنقلهم إلى المستشفيات. لذا على من يريد منكم انقاذ صديق له، عليه أن يقوم هو بحمله من أسقل الوادي صعوداً لننقله بعدها للعلاج”.

على من يريد منكم انقاذ صديق له، عليه أن يقوم هو بحمله من أسقل الوادي صعوداً لننقله بعدها للعلاج

أنا حملت رفيقاً كان مصاباً، وها هو حي يرزق في المعسكر المقابل، تابع ذلك الشاب!

الحرب لها قواعد، أمّا العمالة فهي محكومة بالنذالة والدس والاختباء وراء صناديق خشبية أو شبّابيك مدرسة، أو أي مكان استعمله المحتلّون لتجميع الناس ومن ثم اعتقالهم. الحرب تقع وجهاً لوجه، العمالة تشبه التنقل في الأزقة في ليلة حالكة السواد، هي كوضع السكين في الظهر، هي خيانة للصداقة وللخبز والملح، هي نقطة سوداء في تاريخ العلاقات بين الناس في القرى، كما في أسواق المدن أو فوق قوارب الصيادين.

العميل لا يتقن قراءة قصيدة أو رواية أو نص أدبي جميل. العميل لا يحاول فهم لوحة أو التعمق في النظر الى منحوتة، هو يتقن النظر يميناً وشمالاً، كثعلب ماكر. العميل هو كمغتصب عذارى، يفعل أي شيء، قد يساوم على زوجته وبناته وحتى أمه التي ولدته.

العدو يملك وجهة نظر يقاتل ويقتل من أجلها، هو ينظر لك كعدو، كما تنظر له أنت تماماً. العميل هو بائع لوطنه وكرامته ولا يستطيع أن يملك صديقاً، العميل لا يشعر بالحب، العميل لا يشعر بالأبوّة والطفولة ولا حتّى بنفسه!

عرفت لاحقاً بأن ذلك الرجل الغريب الأطوار كان من العملاء في الخارج، أدخله الاسرائيليون بعد أن استفادوا من خدماته لأشهر، ربّما كان على درجة من النذالة جعلتهم يعتقدون بأنّه عرضة للشراء من أي طرف آخر، وبأنّه قد يشكّل خطراً ما على العملاء الباقين.

أشفق على العملاء الذين اعتقدوا حينها بأن الاحتلال باق الى الأبد، قلتها لمندوب الصليب الأحمر الدولي الذي حضر حفل عيد الاستقلال في معسكرنا الأول رقم 13 في عام 1982. قلت له بالفرنسية: “يجب أن تعرفوا بأن لبنان سيتحوّل الى فيتنام أخرى”.

الى العملاء في قريتي وفي كل الوطن: خسئتم!

السابق
ارتفاع عدد قتلى حادث الثكنة العسكرية في تونس إلى 4 بينهم مطلق النار
التالي
كبارة: تهديدات نصرالله لا تخيفنا