العلويون والأسد المقدس

قبيل أسابيع من الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الثورة السورية، أي في مطلع العام 2012، أتاحت لي الظروف أن أحظى بنقاش جريء مع زميل عمل من أبناء الطائفة العلوية، بدمشق. طال النقاش حينها أحداث الثورة، وموقف العلويين منها، في وقت لم تكن فيه الأحداث قد وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من العسكرة والتأزم. أسرّ لي زميل العمل يومها أنه يُعتبر من “المغضوب عليهم” في عُرف نظام الأسد، رغم انتمائه للطائفة، وذلك بسبب صلة القرابة التي تربطه بـ “صلاح جديد”، الرجل القوي بسوريا، الذي أطاح به حافظ الأسد عام 1970، ووضعه في السجن، ومن ثم في إقامة جبرية مدة 20 سنة قبل أن يُتوفى في مقر اعتقاله القسري.

وقصد زميل العمل حينها أن يوضح لي أن موقفه السلبي من الثورة بسوريا، جاء رغم أنه غير مشمول برعاية ودعم نظام الأسد بسبب نسبه العائلي المثير للريبة في نظر النظام. أقرّ زميل العمل هذا، حينها، بأن هناك سلبيات كثيرة في أداء نظام الأسد، وفي طريقة تعامله مع الحراك الثوري منذ بدايات الثورة، لكنه في الوقت نفسه، قدم لي قراءات وتأويلات للأحداث، تُفيد بأنه لم يكن أمام العلويين أي خيار آخر، إلا الالتفاف حول الأسد، مهما كانت الأثمان. إحدى تلك القراءات التي قدمها زميل العمل هذا، مرتبطة بحادثة عاشها قبل أحداث الثورة بسنوات، إذ كان مضطراً، لظروف العمل، أن يقوم بزيارة لمدينة حماه. وأقرّ لي أنه كان يشعر بهيبة ومخافة كبيرة من هذه الزيارة الاضطرارية، فحماه في “لاوعيه” الموروث، حاضن عداءٍ تاريخي للعلويين.

وحسب روايته، حينما وصل المدينة، ركب سيارة تاكسي، وطلب منه إيصاله لمبتغاه مستخدماً “لهجة دمشقية”، كما أخبرني، كي لا يعرف سائق التاكسي بأنه علويّ. أثناء الرحلة القصيرة بالسيارة، حاول سائق التاكسي أن يتعرف على الزائر الذي أدرك أنه غريب عن مدينته. أخبره زميل العمل بأنه “دمشقي” من حي الميدان، مستغلاً أنه تربى قريباً من ذلك الحي، ويدرك جيداً لهجة أهله. فانفردت أسارير السائق، وشعر بأمان حيال الرجل، وبدأ يحادثه بقصص مختلفة، وحين مرورهم عند نقطة محددة من المدينة، أشار السائق قائلاً، “هل تعرف هذا المكان….اسمه ****، هنا توجد عشرات جثث الشهداء الذين قتلهم العلويون في مجزرة حماه عام 1982….أعتقد أنك لم تكن قد وُلدت يومها، كانت مجزرة رهيبة، ….”، وأضاف سائق التاكسي بلهجة جازمة “سننتقم منهم في يوم قريب، ونملأ قراهم بجثث أبنائهم”.

أخبرني زميل العمل أنه شعر بخوف شديد، وساير الرجل على مضض، وبعد أن أوصله إلى وجهته داخل حماه، أنجز عمله بأسرع ما يمكن، وغادر المدينة وهو يشعر برهبة كبيرة. بالفعل لم يكن زميل العمل العلويّ قد وُلد يوم مجازر حماه عام 1982، لكنه أعلمني بأن قناعة راسخة لدى الكثير من العلويين، حتى من الجيل الشاب، كانت تُوحي لهم بأن “السُنة” سينتقمون يوماً، وأقرّ لي بأن الجيل الشاب من العلويين، الذين لم يعايشوا أحداث الثمانينات بسوريا، يشعرون بالرهبة حين الحديث عن حماه، وعن أحداثها المُروعة في مطلع الثمانينات. حادثة أخرى، مع زميل عمل علويّ آخر، حدثت أيضاً في الأشهر الأولى للثورة بسوريا، وكان النقاش يدور حول ما يحدث حينها، وكانت أطراف النقاش ثُلة من الأصدقاء الإعلاميين من الجيل الشاب، أحدهم زميل العمل المُشار إليه.

احتد النقاش، وأقرّ زميل العمل العلويّ بوقوع أخطاء من جانب نظام الأسد في معالجة بعض أحداث الحراك الثوري في بدايته، الأمر الذي شجع أحد أطراف النقاش على التهجم على شخص بشار الأسد، فغضب زميل العمل العلويّ، وقال ما معناه “أقدر صداقتكم كثيراً، وأقبل الانتقاد لشخص الأسد أو مجموعته، لكنني لا أقبل نهائياً أي تهجم أو إهانة مباشرة لشخصه، لأنه لا يعني بالنسبة لنا –يقصد كعلويين- مجرد رئيس، بل هو أكثر من ذلك”، تجرأ أحد أطراف النقاش، ذاته، أكثر، في حمأة الجدل، ليسأله بنبرة فيها استنكار “هل هو مقدس؟”، فأجابه زميل العمل العلويّ، بنبرة هادئة وجادة، لم يبد أنه تقصد فيها الاستفزاز بل التوضيح، “نعم، إنه مقدس”. يُشاع بأن الطائفة العلوية تنظر لآل الأسد، وللحاكم منهم على وجه التحديد، نظرة “غنوصية – باطنية”، لكن لا أدلة جازمة على ذلك. ويُشاع أيضاً بأن هناك “مجلس ملّة” ديني يقود الطائفة ويؤثر على صنع القرار في نظام الأسد، لكن لا أدلة جازمة على ذلك أيضاً.

ورغم عدم وجود أدلة جازمة على ما سبق، يُفسر الكثيرون من المراقبين سلوك العلويين حيال الثورة بسوريا بوجود أبعاد غيبية تدفعهم للاقتناع بأن بشار الأسد هو قائدهم، وأن عليهم الالتفاف حوله مهما كانت الأثمان. بطبيعة الحال، هناك تفسيرات أكثر قوة ومنطقية مما سبق، لموقف العلويين من الثورة بسوريا، من قبيل، أن مخاوف العلويين من أن يفقدوا ميزاتهم التي حصدوها في عهد نظام الأسد الأب والابن، وبالتالي، شعورهم بأن الحراك الثوري ضد الأسد يستهدفهم هم بالذات، دفع غالبيتهم للالتفاف حول الأسد، والقتال بشراسة دفاعاً عن نظامه.

وهناك أيضاً، التفسير المرتبط بالقصة الأولى في بداية المقال، والمرتبط بشعور جيل الشباب من العلويين بأن “السُنة” لا بد وأن ينتقموا من مجازر حماه المُروعة، وأنهم فقط ينتظرون اللحظة المناسبة لتنفيذ ذلك، وهو ما دفع الكثيرين من العلويين إلى اعتبار الثورة بسوريا، تلك الفرصة العتيدة لانتقام السُنة المُرتقب منهم. مع غياب الأدلة، تبقى المنقولات المحكية عن أحاديث مع أصدقاء وزملاء عمل أو جيران من أبناء الطائفة العلوية، تدعم ما يتعلق بمخاوف العلويين من انتقام السُنة المُرتقب، الأمر الذي جعل الكثيرين من العلويين يشعرون وكأن لا سبيل أمامهم إلا أن يكرروا مجازر حماه مرة أخرى بالسُنة، علهم يحظون بعقود أخرى من الأمان والهيمنة، كتلك التي عاشوها منذ مطلع الثمانينات وحتى اليوم. بالعودة إلى نقاشي مع الزميل العلويّ الذي حدثني عن رحلته لحماه، سألته يومها، “ألم تُفدك تجربتك تلك في حماه بأن عليكم ألا تكرروا ذات التجربة – مجازر حماه- كي لا تعيشوا أسرى الخوف من الانتقام، لأجيال قادمة؟”،

كان جوابه بألا سبيل آخر أمامهم. هل كان العلويون، في غالبيتهم، عاجزين عن إيجاد سبل أخرى أمامهم؟، بالتأكيد، لا، فقد كانت هناك سبل عدّيدة، وما يزال هناك، لتجنب المشهد الراهن، الذي يتحمل فيه جزء كبير من أبناء الطائفة العلوية مسؤولية أن تعيش أجيال من أبنائهم في المستقبل أسرى لمخاوف الانتقام، جراء نسخ عديدة لمجزرة حماه، ارتكبها نظام الأسد الابن، ليُضاعف حجم المأزق النفسي الذي يعيشه أبناء طائفته. وإن صح ما يُشاع عن وجود “مجلس ملّة” ديني يؤثر في صنع القرار بنظام الأسد، فذلك سيزيد من مسؤولية رموز الطائفة حيال عدم ردعهم لبشار الأسد وزمرته عن السير في طريق “حماه” مجدداً، بعد 3 عقود من مجازر الأب.

ماذا عن اليوم، والمستقبل؟….أعتقد أنه ما يزال هناك هامش لإيجاد سبل أخرى، رغم أن ذلك الهامش ضاق كثيراً، وفي نظر شريحة واسعة من المراقبين، فات الأوان…لكن سيناريوهات من قبيل، فتح قنوات تواصل مع رموز المعارضة وقياداتها من جانب قيادات دينية أو مناطقية بالطائفة، ما يزال من الممكن طرحها للنقاش. فهي بطبيعة الحال ستكون أفضل بكثير من السيناريوهات الأخرى المُتداولة اليوم، بما فيها سيناريو “الدويلة العلوية العتيدة” في الساحل، التي فنّد الكثيرون من المتخصصين إمكانيات نهوضها واستمرارها من الجوانب اللوجستية والاقتصادية والديمغرافية. والنقطة الأخيرة بالذات، قد تكون موضوع نقاش في مقالات مُقبلة، بعد أن عاد الجدل حول إمكانيات نهوض هذه “الدويلة” كخيار أخير للعلويين وحلفائهم.

(المدن)

السابق
«حزب الله» وأسرار الموت في سوريا والخلاف حول اعتبارهم شهداء او ضحايا
التالي
الرجال يحبون ممارسة الجنس عند 7:54 صباحاً