في ذكرى تلك الصدفة!

الهاشتاغ الذي اطلق في الذكرى السنوية الاربعين، بعنوان “تعلمنا- من- الحرب- الاهلية”، جمع الكثير من المتابعين والقليل من المبدعين في انتاج افكار جديدة تقاوم ضحالة الثقافة السياسية اللبنانية التي كانت على الدوام عصية على التركيب والتحليل، وفاضحة للّغة المحكية التي تعجز عن تركيب جملة سياسية واحدة مفهومة. ويستوي في ذلك الساسة الذين تخونهم معارفهم، مع الاعلاميين الذين ينحط مستواهم، مع العامة الذين يعجزون عن صياغة موقف واحد غير ترديد الشعار الازلي “وينيي الدولة”.. ثمة جهد اضافي يبذل هذه السنة من اجل تنشيط الذاكرة التي ضعفت اكثر من اي عام مضى، فقط لأنها تراكم ذكريات أفظع توفرها الوقائع والصور الواردة من سوريا او العراق او اليمن او ليبيا او غيرها من البلدان التي حلت عليها اللعنة نفسها. لكنه جهد مفتعل، يغلّب الفولكلور والزجل على الهدف الفعلي من استعادة تلك الذكرى على أمل التحرر منها. وهو ما يبدو انه مستحيل طالما ان المخيلة اللبنانية ما زالت قادرة على استحداث أسباب للانشطار الى نصفين: نصف مستعد للموت من اجل قضية ما، ونصف ثان مستعد للموت ضد القضية نفسها. وهي لم تستكشف فكرة الحياد التي لم يدركها اللبنانيون يوما ولم يقدروا أهميتها الا بعد فوات الاوان. ما زال يمكن الادعاء ان الخطوة الاولى في استعادة الذكرى وفي تحرير الذاكرة هي التسليم بانه لم يبق من الفلسطينيين والسوريين والاسرائيليين وغيرهم من الذين ساهموا في اشعال تلك الحرب سوى رواسب، لا يمكن ان تكون سبباً كافياً في تجديد الصراع الاهلي. الحرب السورية الراهنة التي تقسم اللبنانيين اليوم بين فريق مستعد للموت من اجل بشار الاسد وبين فريق مستعد لقتله او على الاقل لتمني موته، هي فرصة للتخلص من آخر أسلحة الحرب وبرامجها ورموزها، لكنها فرصة قد لا تنجح، لان الصراع السوري هو الى حد ما شأن محلي لبناني اكثر مما كانت القضية الفلسطينية او الخطة الاسرائيلية. واياً كانت نتيجة ذلك الصراع فانه سيساهم حتما في تغيير جذري في صيغة لبنان السياسية التي جرى اشتقاقها في اواسط القرن الماضي في ظروف عربية مشابهة. في الاستعادة الراهنة خلل متوارث، ينسحب من الشارع الى النخب، في التعاطي مع الذكرى وموضوعها. لعل الاوان لم يحن بعد للبحث في عيوب النظام اللبناني التي كانت ولا تزال مصدر الحرب، او العيش على حافتها كما هو الحال اليوم، لكن اي خطوة في هذا الاتجاه، مهما كانت متواضعة، او أي وعد في هذا السياق مهما كان خيالياً يمكن ان يخدم الذاكرة، التي تعيش هاجس حرب اخرى بطوائف ومذاهب وادوات مختلفة، لكن بالاساليب نفسها التي كانت جوهر “اللبننة” وتراثها المقيم. ثمة حاجة ملحة الى تعطيل ذلك المسار الذي يقود المسلمين اللبنانيين الى انتحار جماعي، ويدفع المسيحيين اللبنانيين الى هجرة جماعية. ثمة حاجة الى اسقاط تلك الفكرة المجنونة التي تقول ان خلاص لبنان يكون بالخلاص من متطرفيه. هؤلاء ليسوا قلة، ولم يكونوا يوماً اقلية، وهم يحققون الان مكاسب يومية، يغذيها التورط في الصراع السوري، ما يزيد من صعوبة تصور شكل لبنان المستقبل وتحولاته الديموغرافي المرتقبة. المجازر العربية المروعة تبرر القول ان الذكرى الاربعين للحرب الاهلية اللبنانية صارت بعيدة جدا، وهي على وشك السقوط في النسيان، الذي يفسح المجال لسد فراغ الذاكرة بنموذج جديد، لان الجمهور اللبناني يثبت كل يوم انه لا يزال يتمتع بالاستعداد اللازم للحرب، أي حرب، ولا يزال يعتبر ان أصوات الرصاص والانفجارات هي نشيده الوطني الاثير وموسيقاه الشعبية العذبة، ولا يزال يعتقد ان ما حصل في مثل هذا اليوم من العام 1975 كان مجرد صدفة..كان يمكن تفاديها.

(المدن)

السابق
قوى الامن الداخلي تتمنى على السائقين التروي في القيادة بسبب الأمطار
التالي
بالصوت : رسالة عصام بريدي الى والدته