عاصم ترحيني يكتب العراق وقد سحره كما سحر جدّه هاني فحص

المهندس الشاب عاصم ترحيني هو حفيد العالم والأديب الراحل السيد هاني فحص (ابن بنته بادية)، الذي ودّعه لبنان والعالم العربي قبل شهور بوافر من التبجيل والتكريم المستحقّ. أرسل لـ"جنوبية" قطعة أدبيّة راقية من مكان عمله الجديد، أرض العراق، التي بدأت تسحره كما سحرت جدّه من قبله، والقلم إرث أيضا، وخير دليل على صحّة مقولتنا هو قراءة الآتي الذي خطّه حفيد السيّد الراحل.

على ضفاف نهر دجلة قامت أعظم مدن المشرق، بغداد، المدينة العميقة الكثيفة والثرية.

منها وإليها تعود الروايات والأساطير، وتبقى قبلة التاريخ وحلم مستقبل الذي يمضي دون حذر رغم ما “اشتبكت عليها الأع”. بغداد عاصمة الملوك والخلفاء والسلاطين والشعراء والعلماء والفنانين وحتّى السفّاحين.

قسمها دجلة إلى قسمين: الكرخ غرباً والرصافة شرقاً، لكنه ما استطاع ان يقسم بين أهلها الذين بنوا الجسور بينهم فكانت أولى المحاولات البدائية للتواصل، عبر ربط طوافات عائمة بحبال سُمِّيَت باللهجة المحلية “الدوبة”.ولَكَم طَلَعَ صباح استيقظ منه أهل بغداد ليتفاجأوا بأنّ الجسر الذي يربط اوصالهم قد حُلّ وثاقه إما عَرَضاً وإما افتعالاً، فيطوفون بحثاً عنه. فإذا عاد يستقبلونه بالزغاريد والغناء وطلب الصفح عن أخطائهم، ظناً منهم أنّ الجسر قد غضب منهم.

على الجانب الغربي لبغداد، أي الكرخ، تقع منطقة الكاظمية نسبة لمرقد الإمام الكاظم في مقبرة قريش، ذات الغالبية الشيعية.

أما في الجانب الشرقي، الرصافة، فتقع مدينة الأعظمية نسبة لمرقد الامام الأعظم أبي حنيفة النعمان في مقبرة الخيزران، ذات الغالبية السنية. وبعد جدل طويل وشدّ حبال بين أهل الضفتين اتفقوا على تسمية الجسر الحديدي الذي استحدثه الانتداب البريطاني بـ”جسر الإمامين”، عوضاً عن جسر على اسم إمام دون آخر، أو منطقة دون أخرى. وكان هذا الاسم وهذا الجسر دليلا ومعلما على واقعية أهل المدينة واعترافهم واحدهم بالآخر، وأنّه طريق عبورهم نحو الدولة الجامعة والهوية المشتركة. ولطالما عبر أهل الرصافة الجسر في ذكرى شهادة الإمام الكاظم، يقدّمون العون والمساعدة لجيرانهم الذي نصبوا الخيام وأعدوا الوجبات والحلوى وما تشتهيه العين والقلب لسيول زاور المرقد من كل العراق. وهذه واحدة من المناسبات التي تصيب الغريب بالحيرة تجاه تفكير العراقيين… بسبب حجم الكرم والتفاني وحسن الوفادة التي يبذلهونها خدمة لإخوانهم وتخفيفا عنهم بعد رحلة السفر الطويلة.

في العام ٢٠٠٥ استعرت الحرب الطائفية في العراق، وكان لبغداد حصّتها الكبيرة. واجتاحت الأحياء والأزقة والبيوت والاهل والأنساب والضفتين، حتى ارتفع بين اهلها جدار، خوفاً من القتل على الهوية. وفي ذكرى شهادة الإمام الحسين وقعت أكبر مجازر التطهير، يوم استهدف تنظيم القاعدة زوار المرقد وأشاع خبر وجود انتحاري على الجسر، فتدافع الزوار رعبا، منهم من قضى غرقاً ومنهم من قضى دهساً او اختناقاً… وكثيرون قضوا مسمومين بعد أن دس السم في طعامهم. فما كان من أهل الأعظمية، لهول المشهد، إلا أن هبّوا لنجدة أشقائهم بعد نداء مؤذن مسجد أبي حنيفة النعمان. وكان الشاب عثمان العبيدي السني، ابن مدينة الأعظمية، أحد أبطال هذا اليوم، فأنقذ العشرات من الغرق، لكنّه قضى غرقاً لشدة الإعياء. فاحتضنه دجلة جثة هامدة ورفعه العراق رمزاً للوحدة ورفضاً للفتنة المفتعلة.

خلفّت الكارثة المهولة ألف ضحية تقريباً، وجرح سرعان ما أدرك أهل المدينة أنّ شفاءه ليس بالانتقام الذي حرّض عليه خطباء المنابر، بل بمزيد من جسور التواصل بالاتجاهين وكل الاتجاهات المتفرعة عنهما. كارثة جسر الإمامين يوم أسود في تاريخ العراق المصلوب والمشظى. أما عثمان ومجهولون آخرون مثله فهم مستقبل العراق وحلمه، هم الدوبة التي ترتفع وتتطاول وتتوسع يوماً بعد يوم، وتعبد جسر العبور إلى الدولة العراقية المرجوة.

لَكَم يحتاج العراق اليوم، بمؤسّساته ومجتمعه الأهلي، إلى المراجعة والاتعاظ من تاريخه وموروثه الشعبي، بعيداً عن الرواية الرسمية المنمقة والاتفاقيات والمساومات. فما لم يذكره خطباء المنابر ودعاة الفتة والتقسيم ونشرات الأخبار المنحازة هي تفاصيل حياة هذا الشعب الذي أنهكته الحروب وأصبح له مع الموت والخراب مواعيد مزدحمة، انحفرت على وجهه الأسمر وذاكرته اليقظة وصلاته ولطمياته، وعلى الجدران والقلوب المهدّمة، والشعر الشعبي الذي يلازم الغريب أينما ولّى وجهه في هذه البلاد.

في كل مشوار يصرّ صديقي العراقي، مرتضى، أن يزيّن خروجنا معاً، بأبيات من الشعر العراقي العامي، كتلك التي تسطع سحرا وبهاء حين تروي قصة عثمان، بصوت الشاعر صباح الهلالي، بمصادفة ساحرة عند مرورنا بجسر خالد بن الوليد حيث يصافح النهران دجلة والفرات بعضهما البعض محمّلين بكمّ من القصص الشعبية الحزينة والخيبات والآمال والدموع. فيتهدّج صوته راقصاً مستعيداً أفراح العراق وأتراحه:

«انه غرقان يمّك ها أخي عثمان

البجسر الايمّة ما صفن لحظه

شاف الايد وحدة وناس ظكه الماي

وعلى كص الجفوف لصاحبه تشظه

انه دجله الخير المانست عطشان

واخوي انته الفرات والترضه ما ترضه

اختلفنه بأولياء الله وضعنه

واحنه الساس للدنيا وضعنه

وربك ما نغير من وضعنا شرط إن تحط ايدك بديّه».

قد تكون بضعة أيام في رحاب العراق وأهله كافية، ليدرك الغريب الهوّة التي تفصل بين ما كان يصله من أخبار عن العراق وما هو حقيقي، وليدرك أنّ حياة العراقيين العادية، وبساطتهم وقناعتهم، هي انتصار يومي على كلّ الغزاة والمحتلين والمتطفلين والعابرين، وأنّ مستقبل الشرق، كما ماضيه، سيكتبه بشكل أساسي مصير هذا البلد ومستقبله

السابق
السيّد الأمين لـ«جنوبية»: «الفردانيّة» حق أقرّه الإسلام كضرورة للتنوّع
التالي
كاميرات مراقبة تظهر صورا للفتيات البريطانيات اللواتي توجهن الى سوريا